مقدمات انفجار الوضع الفلسطيني

TT

لم يفاجئنا تجدد الصدام المسلح بين حركتي فتح وحماس في غزة. فأي متابع للشأن الفلسطيني كان يعلم جيداً أن ذلك الصدام واقع لا محالة وأن الطرفين يتحسبان له، بل أن هناك تسريبات بأن الأمر سوف يحسم في شهر يوليو (تموز) المقبل بعد أن تستكمل الحركة ترتيب أوضاعها، سواء فيما يخص كميات السلاح أو عودة المجموعات التي تتدرب في الخارج.

متابعو الشأن الفلسطيني يعرفون أيضاً أن اتفاق مكة لم يفتح صفحة جديدة بين فتح وحماس كما كان مرجواً وإنما اعتبر بمثابة «هدنة» بين الطرفين. صحيح أن الاتفاق حقق إنجازاً كبيراً بوقفه الاقتتال بين

«الإخوة الأعداء» وبإقناعهما بالعمل معاً في إطار حكومة الوحدة الوطنية. إلا أن هذين الإنجازين لم يغيرا من الموقف الأساسي لقيادة فتح المتمثل في الإصرار على إخراج حماس من اللعبة وإفشال أية حكومة ترأسها، حتى إذا كانت حكومة للوحدة الوطنية. عبرت عن هذا الموقف القرائن التالية:

* إن وسائل الإعلام المعبِّرة عن حركة فتح لم توقف هجومها وتشهيرها بحركة حماس وإثارة الجماهير ضدها، متجاهلة أن اتفاقاً وُقِّعَ بين الطرفين في مكة.

* إن الرئيس محمود عباس ظل يماطل في تعيين وزير الداخلية الذي اتفق في مكة على أن يكون مستقلاً ترشحه حماس ويوافق عليه أبو مازن. وقد رفض ما بين 8 و10 أشخاص رشحتهم فتح، وأخيراً وافق على اسم هاني القواسمي. وبعد الموافقة، فاجأ أبو مازن الجميع بقرارين أثارا الدهشة. وكانا مناقضين لروح الاتفاق؛ الأول أنه استحدث منصب مدير الأمن الداخلي، وعيَّن له أحد رجاله، وهو رشيد أبو شباك، رغم أن القانون الأساسي الفلسطيني ينص على أن وزير الداخلية هو قائد الأجهزة الأمنية. القرار الثاني أنه أصدر قرارا بتعيين محمد دحلان مستشاراً للأمن القومي، الذي يتهمه البعض بأنه المسؤول عن الفلتان الأمني في القطاع، وأنه أحد الخصوم الشرسين لحركة حماس. ولم تكن هذه الخطوة مجافية لروح اتفاق مكة فحسب، وإنما كانت مخالفة للقانون أيضاً، لأن دحلان نائب في المجلس التشريعي ولا يجوز له أن يجمع بين وظيفته كنائب يفترض أن يراقب أداء الجهاز التنفيذي ووظيفته الجديدة التي أصبح بمقتضاها جزءاً من الجهاز التنفيذي، ومعروف أنه وبسبب ذلك التعارض القانوني بين الوظيفتين، فإن السيد جبريل الرجوب قدم استقالته من مجلس الامن القومي ليخوض الانتخابات التشريعية التي لم ينجح فيها.

من جراء هاتين الخطوتين، فإن وزير الداخلية هاني القواسمي وجد نفسه مقيد الحركة ومعزولاً في وزارته، ومن ثم فإنه صار عاجزاً عن معالجة الفلتان الأمني، وغير متمكن من تنفيذ الخطة الأمنية التي تم الاتفاق عليها في مجلس الوزراء ومع أبو مازن، الأمر الذي اضطره إلى تقديم الاستقالة والتمسك بها، حيث أدرك أن رئيس السلطة مصرٌّ على أن يظل ممسكاً بمفاتيح الأجهزة الأمنية، باعتبارها أجهزة فتحاوية تابعة للحركة وليس للحكومة. ورغم أن رئيس الوزراء إسماعيل هنية رفض الاستقالة في البداية، إلا أنه اضطر إلى قبولها بعدما اقتنع بجدية أسبابها وإزاء إصرار القواسمي عليها.

* حين جَرَى التفاهم بين أبو مازن وهنية لتخفيف الحصار الذي تفرضه قيادات الأمن الفتحاوية على وزير الداخلية، فإن رئيس السلطة وعد بإبعاد مدير الشرطة العميد علاء حسني على أن يشغل مكانه محافظ نابلس كمال الشيخ، وهو من قيادات الشرطة في الضفة، ولكن أبو مازن لا يزال يماطل في تنفيذ الاتفاق وظل الرجل في مكانه متحدياً الوزير ورئيس الوزراء.

* رغم موافقة أبو مازن على الخطة الأمنية التي قدمها القواسمي إلا أن الممارسات التي ظهرت على الأرض دلت على أن ثمة محاولات مكشوفة لعرقلة تنفيذها، تمثل ذلك في الانتشار المفاجئ في شوارع غزة لقوات مختلفة من الأمن الوطني والمخابرات العامة والأمن الوقائي يوم الخميس الماضى 10/5، وكلها أجهزة تابعة للرئاسة، الأمر الذي أدى إلى اصطدامها مع القوة التنفيذية التابعة للداخلية. ورغم ما قيل عن أن ذلك كان بمثابة اجتهاد فردي من قبل بعض الضباط، إلا أنه كان دالاً على أن هناك نية مبيتة لإفشال محاولات ضبط الأمن والإبقاء على الفلتان في الشارع للضغط على الحكومة وإفشال وزير الداخلية.

على صعيد آخر، فإن الاتفاق الذي تم في مكة، والتوافق على تشكيل حكومة الوحدة الوطنية لم يؤديا إلى تطبيع العلاقات بين السلطة والحكومة، رغم إذابة الكثير من الجليد الذي شاب تلك العلاقة، فلا يزال رئيس الوزراء إسماعيل هنية معزولاً عن جو الاتصالات السياسية التي تجري باسم الحكومة، والتي يقوم بها وزيرا الخارجية والمالية بالتنسيق مع أبو مازن بطبيعة الحال. صحيح أن الوزيرين يضعان رئيس الوزراء في صورة الاتصالات، ولكن الممارسات على أرض الواقع تكاد توحي بأن ثمة حكومتين وليس حكومة واحدة؛ إحداهما في رام الله والأخرى في غزة، ذلك أن مواصلة وزراء في الحكومة الالتقاء مع ممثلي دول أجنبية ترفض التعامل مع رئيس الوزراء، تعني من الناحية العملية تكريس نزع الشرعية عن هنية ووزراء حماس. وثمة مؤشرات تدل على أن الانسجام مفقود داخل حكومة الوحدة الوطنية، ففي الوقت الذي يحكم فيه الحصار حول وزير الداخلية المستقيل بحيث يمنع توجيه قيادات الشرطة الفتحاويين في وزارته، فإن وزراء حماس يتهمون وزير الصحة الذي ينتمي إلى حركة فتح بأنه يقوم بإحصاء عناصر حماس الذين تم تعيينهم في عهد وزير الصحة السابق في حكومة هنية الأولى.

وإذا كانت الأزمة بين فتح وحماس قد استمرت على ذلك النحو، فإن الأزمة التي يعانيها المجتمع لم تستمر فحسب، وإنما تفاقمت أيضاً، ذلك أن الانفراج النسبي الذي حدث على الصعيد السياسي، لم يكن له أي صدى على الصعيد الاقتصادي، حيث لم تتوافر أي مؤشرات على أن الاتفاق أدى إلى وضع حد للحصار المفروض على الشعب الفلسطيني، وإنما حدث العكس، فهناك دلائل على حدوث انخفاض في المساعدات التي تتلقاها السلطة بشكل أثر على عدم القيام بواجباتها. وما حدث في وزارة الداخلية خير دليل على ذلك، لأن الوزارة باتت توشك على التوقف عن تقديم خدماتها للجمهور بسبب عدم توافر مستلزمات العمل لإنجاز معاملات المراجعين.

وثمة همس يدور فى الأوساط السياسية حول دور لبعض وزراء فتح المحسوبين على الرئاسة في التراجع الذي حدث في المساعدات. وقد سمعت من أكثر من مصدر أن اثنين من أولئك الوزراء نصحا بعض المبعوثين الأوربيين بعدم التعجل في إرسال المساعدات، وتأجيل ذلك إلى ما بعد شهر يوليو المقبل، وهو التوقيت الذي رشح لحسم المواجهة مع حماس وإعادة سيطرة فتح بالكامل على السلطة. والهدف من ذلك هو إقناع الرأي العام بأن وجود حماس في السلطة كان عائقاً دون وصول المساعدات، وأن عودة فتح هي التي أحدثت الانفراج المالي الذي انتظره الناس طويلاً.

لا يقلل ذلك من أهمية القرار الإسرائيلي الذي أصبح أمريكياً وأوروبياً باستمرار الحصار ما لم تستجب حكومة حماس لشروط اللجنة الرباعية التي تضمنت الاعتراف بإسرائيل والالتزام بالاتفاقيات ووقف المقاومة تحت عنوان نبذ العنف. فهذا الحصار هو الأصل في الأزمة الاقتصادية الراهنة وأهدافه ونتائجه غنية عن أي بيان.

وإذا كان الموقف الإسرائيلي والأمريكي والأوروبي مفهوماً، إلا أن المرء لا يستطيع أن يخفي شعوره بالدهشة والصدمة إزاء اشتراك الموقف العربي في الحصار، رغم أن مجلس جامعة الدول العربية قرر كسره بعد إعلان اتفاق مكة وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية.

وقد كان متوقعاً أن تسهم الدول العربية في تخفيف معاناة الشعب الفلسطيني، سواء من خلال رفع قيمة المساعدات الشهرية التي قررتها القمة العربية (55 مليون دولار شهرياً)، أو من خلال استثمار علاقاتها بالأطراف الأخرى لرفع الحصار والكف عن سياسة تجويع الشعب الواقع تحت الاحتلال (وهذا سلوك غير مسبوق في التاريخ الإنساني)، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث للأسف الشديد. أما الذي حدث فقد كان مفجعا حقاً، فلا الدول العربية أدت التزاماتها ـ باستثناء الجزائر والسعودية نسبياً ـ ولا هي مارست أية ضغوط على الدول الغربية

(الصديقة) لتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني. في الوقت ذاته، فإن أغلب الدول العربية واصلت حصارها السياسي لحكومة حماس وليس الاقتصادي فقط. وبدا مدهشاً، أن يدعى رئيس الوزراء إسماعيل هنية لزيارة جنوب أفريقيا ولا يدعى لزيارة مصر على سبيل المثال ـ وفي حين أن الجامعة العربية شكلت لجنة وزارية للاتصال بالدول المختلفة وبينها إسرائيل ـ بخصوص المبادرة العربية، فإنها لم تبذل جهداً يذكر لا في معاناة الشعب الفلسطيني ولا في رعاية اتفاق مكة وإلزام طرفيه بنصوصه وروحه.

تتضاعف الفجيعة إذا صحت المعلومات التي تحدثت عن قيام بعض دول الجوار العربية بتدريب القوات التابعة لرئاسة السلطة التي تجهز لمواجهة حماس في غزة، وتلك التي تحدثت عن تكفل إحدى الدول الخليجية بتمويل صفقات السلاح التي ترسل لحساب الرئاسة لذات الغرض وإذا أضفنا إلى ذلك المعلومات التي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية عن موافقة الكونغرس الأمريكي على تقديم 60 مليون دولار للرئاسة الفلسطينية للإنفاق على إعداد وتدريب القوات الأمنية التابعة لها، فإن ذلك يعني أن المشهد الفلسطيني يتجه إلى ما هو أسوأ، الأمر الذي لا تستبعد معه التوقعات بحدوث مواجهة كبرى خلال شهر يوليو المقبل.

الله وحده يعلم ما الذي سيحدث إذا انفجر الموقف على هذا النحو الذي يخطط له، لكن ما نعلمه أن حماس أصبحت بصدد خيارات صعبة، فإما أن تستمر في الحكومة وتخوض الصراع إلى آخره مع ما قد يرتبه ذلك من نتائج مأساوية يدفع الشعب الفلسطيني ثمنها من دمه ومن حلمه، وإما تنصاع لشروط الرباعية متنازلة عن مبادئها وثوابتها مقابل الاستمرار في السلطة ورفع الحصار، الأمر الذي يحولها إلى فتح ثانية ـ وإما تنسحب من السلطة وتضحي بها، لتقف في موقعها الأصلي في صف المقاومة والمعارضة للحلول المطروحة التي تضيع القضية.

لكن هذه ليست الخيارات الوحيدة، لأن هناك احتمالاً آخر يتمثل في استبدال انفجار العلاقة بين حماس وفتح بانتفاضة شعبية ضد الاحتلال بمختلف ممارساته من الاجتياحات والتجويع، الى السور والمستوطنات. إذ من شأن تلك الانتفاضة أن تخرج الجميع من المأزق وتقنعهم بتجاوز الصراع العبثي حول سلطة وهمية، وتذكرهم بأن الاحتلال هو أصل الداء وأن وحدها المقاومة هي الدواء.

هذا الخيار ليس مستبعداً لكن هناك خياراً آخر أقرب إلى المعجزة (أليس من حقنا أن نحلم؟) أن يتغير شيء في الموقف العربي يقلب المعادلة ويقلب معها صفحة الأحزان والمواجع التي نستشعرها.. حينئذ فقط يستقيم أمر القضية، ويوضع الحصان أمام العربة.