أين تقرير لجنة «فينوغراد» العربية؟

TT

من المستحيل أن تجد توافقا عربيا إسرائيليا على أمر؛ ولكن التوافق جرى على الاحتفاء بتقرير لجنة فينوغراد الإسرائيلية حول «حرب لبنان الثانية» والتي جرت صيف العام الماضي بعد أربعة عشر عاما من حرب لبنان «الأولى» التي جرت عام 1982. وكان التوافق ممكنا لأن التقرير تحدث عن الإخفاقات الإسرائيلية في الحرب، فأشعل ذلك في إسرائيل حالة جدل واسع حول ضرورة استقالة يهودا أولمرت رئيس الوزراء انطلاقا من مقولات التقرير الذي أصبح نوعا من «عنوان الحقيقة» حول الحرب؛ أما في العالم العربي فقد اعتبر نوعا من الاعتراف الإسرائيلي بالنصر والانتصار الذي أحرزه حزب الله ـ والعرب من ورائه ـ على الدولة العبرية.

وقد حدث ذلك على الجانبين، رغم أن التقرير يقول بوضوح إنه مجرد تقييم جزئي ومؤقت عن قرار الحرب والأيام الأولى منها لأن واضعي الوثيقة رأوا أن الظروف صعبة وربما تحتاج فورا إلى إصلاح فوري لأدوات صنع القرار حتى تستطيع إسرائيل مواجهة أزمات مقبلة بقدرات أكثر كفاءة. وهكذا، فإن عملية التقييم للحرب وما جرى فيها سوف يظل عملية مستمرة سواء من قبل اللجنة أو من قبل الكثيرين الذين لن يكفوا عن البحث والتنقيب فيما يصلح ويقوم ويراجع. وعلى الجانب العربي، فإن هذه الحقيقة لم تكن لافتة كثيرا، في الأقل بالمقارنة بحالة الزهو بالنصر، ولا حتى بالنظر إلى الحالة اللبنانية بعد عشرة شهور من الانتصار حيث لا تزال آثار التدمير باقية، والاحتلال الدولي للجنوب مستمرا، والأخطر من ذلك أن الدولة اللبنانية منقسمة ومشلولة، ويعشش فيها دولة ـ حزب الله ـ داخل الدولة اللبنانية تقرر لها سياستها الداخلية والخارجية والأمن القومي أيضا. وفي أي الأحوال، فإن أحدا لم يسأل عما إذا كانت هناك لجنة تحقيق عربية قد جرت على أي مستوى ـ الجامعة العربية أو لبنان أو حتى حزب الله ـ لكي تقيم ما جرى بصدق ونزاهة. ومن المرجح أن أحدا لم يسأل عن ذلك، أو حتى يتوقع حدوثه، لأن تشكيل لجان التحقيق لم يكن أبدا من التقاليد العربية فلا جرى تحقيق فيما جرى في يونيو(حزيران) 1967، ولا في ثغرة عام 1973، ولا في حرب عام 1982، ولا في حرب احتلال الكويت، ولا في غيرها من الحروب والانتفاضات والثورات المسلحة أو غير المسلحة.

في الحقيقة، فإن تاريخ حروبنا مع إسرائيل وغيرها بات يكتبه الإسرائيليون وغيرهم، فإذا قالوا بالفشل فمعنى ذلك أننا انتصرنا، أما إذا قالوا بالنجاح والنصر، فإن معنى ذلك هزيمتنا. وقد جرى ذلك مع تقرير لجنة أغرانات عن حرب أكتوبر(تشرين الأول) 1973، كما جرى مع تقرير لجنة فينوغراد، وكما يقوم الأستاذ محمد حسنين هيكل بتدوينه كل خميس على قناة «الجزيرة» القطرية حيث تقوم المصادر البريطانية بكتابة التاريخ المصري والعربي.

وقد كان من الممكن أن يكون تقرير لجنة فينوغراد معلما لكثيرين منا، فالاتهام الأول في التقرير هو أن القيادة السياسية الإسرائيلية تسرعت في قرارها، ولم تبحث في الخيارات المطروحة، ولم تستمع إلى أهل الاختصاص، خاصة في وجود قيادة لا تمتلك خبرات عسكرية كافية. مثل هذه الأسئلة كان واجبا طرحها في لجنة تحقيق عربية على الجانب العربي، فحتى هذه اللحظة ووسط أقواس النصر التى نصبت للسيد حسن نصر الله، فإن أحدا لم يسأل عن الحكمة في قرار اختطاف الجنديين الإسرائيليين ولا في تدمير الدبابة الإسرائيلية وجنودها على الجانب الإسرائيلي من الحدود، وما هي الخيارات المطروحة على رئيس حزب الله، وهل كان متسرعا في القرار أم لا. كل ما نعرفه من صاحبنا أنه قال ذات مرة أنه أخطأ حسابات رد الفعل الإسرائيلي، وهو صدق يحسب له، ولكنه ولا غيره تساءل عن أسباب الخطأ ولماذا جرى، وهل كان ذلك راجعا للمعلومات أم أنه كان راجعا للتحليل، أم أن المسألة لم تكن لها علاقة بإسرائيل من أولها إلى آخرها، وأن المعارك مع الصهاينة كثيرا ما تكون ملائمة لتصفية حسابات داخلية لا تزال جارية على الأرض اللبنانية حتى هذه اللحظة؟

يبدو أن فكرة الخيارات المطروحة صعبة ومعقدة على الذهن العربي في العموم، ففي ظل ثقافة سياسية لا تعرف إلا «الثوابت» القومية فإن وجود خيارات متعددة للتعامل مع كل موقف تظهر دوما كما لو كانت نوعا من الخلل العقلي أو المراوحة والتردد في تحقيق المصالح العليا. وعندما قرأ واحد من الكتاب العرب المرموقين تقرير فينوغراد توصل إلى استنتاج ـ ربما ليس بعيدا تماما عن الحقيقة ـ أن إسرائيل سوف تشن حربا في المستقبل القريب. وأمام ذلك الشر المستطير، فإن كاتبنا الذي فرغ توا من قراءة التقرير الإسرائيلي لم يجد خيارات مطروحة وإنما خيار وحيد هو تجميد المبادرة العربية فورا، وبعث التحالف الثلاثي المصري ـ السعودي ـ السوري (أي التحالف الذي أقرَّ المبادرة) مرة أخرى حتى يصد الهجمة الإسرائيلية القادمة!

هنا فإن الكاتب لا يضع في اعتباره أننا ربما نحتاج أكثر للمبادرة العربية في هذه المرحلة حتى يتم تكوين التحالف الثلاثي الذي تصدع بسبب اتهام واحد من أطرافه للآخرين بأنهم من «أنصاف الرجال»، أو حتى تستعد الجيوش العربية وتنسق فيما بينها، أو حتى ننقل المبادرة كلها إلى مجلس الأمن حتى نربك الحسابات الإسرائيلية، أو حتى يرفع حزب الله أصابعه عن القصبة الهوائية اللبنانية ويعطي الشعب اللبناني حق تقرير المصير والعيش في سلام. وفي أي حال، فإن المبادرة العربية ليست هي الخيار الوحيد المطروح، فسوريا مثلا لديها خيار مطروح بإلحاح على إسرائيل لاستئناف المفاوضات والتوصل إلى سلام يصمم على عودة اللاجئين؛ كما أن حزب الله وحركة حماس وهما الآن اللذان يقودان المسيرة العربية نحو التحرير والنصر ربما يشكلان واحدا من الخيارات المطروحة، خاصة أن صاحب اقتراح بعث التحالف الثلاثي ليس من هؤلاء المعتقدين في كفاءة وديمقراطية الدول الثلاث وقدرتها.

بالطبع، فإنه لا توجد خيارات معلقة في الهواء، فهي دائما مرتبطة بالقدرات المادية والمعنوية المتاحة، ومن بينها مهارة الساسة وقدرتهم على استخدام الموارد لتحقيق الأهداف القومية. وكان واحدا من أهم انتقادات تقرير فينوغراد للحكومة الإسرائيلية وإدارتها لقرار الحرب هو ضعف المعرفة العسكرية لدى كل من رئيس الوزراء أولمرت، ووزير الدفاع عمير بيرتس بالإضافة إلى عجزهما عن الاستفادة بالخبرات المتاحة. ولم يحدث أبدا في التاريخ العربي المعاصر أن جرت دراسة حول المهارات العسكرية ـ فضلا عن السياسة والدبلوماسية ـ للقادة العرب. وباستثناءات قليلة، كان منها التساؤل حول كفاءة المشير عبد الحكيم عامر الذي ثبت أنه يعرف في الغناء والحظ أكثر مما يعرف عن ميادين القتال، فإن تقييما لم يجر أبدا لا للقادة السياسيين ولا للقادة العسكريين حول مدى معرفتهم بفنون الحرب الحديثة. وبالتأكيد، فإن أحدا لا يعرف الكثير عن حجم المعرفة العسكرية والاستراتيجية التى حصل عليها السيد حسن نصر الله سواء كان ذلك في حوزة النجف أو قم، حيث درس وحصَّل المعرفة الدينية، وعلى الأرجح المعرفة السياسية أيضا!

إن تقرير فينوغراد لا يزال مفتوحا. وعندما تكتمل فصوله في القريب العاجل سوف يعطينا منهجاً تحتذيه لجنة تحقيق عربية محايدة ونزيهة تقول الحقَّ ولا تخشى في الله لومة لائم!