الحزب الشيوعي العراقي بين الأصولية والتجديد

TT

عندما يُذكر اليسار العراقي بكل مشاربه، كتيار سياسي واجتماعي وثقافي، يحضر الحزب الشيوعي العراقي في الواجهة، مع عدم احتكار لتمثيل ذلك التيار العريض، فللقوميين يساريوهم، وللدينيين يساريوهم أيضاً. ناهيك من اليسار في الفن والأدب والحياة الفكرية والاجتماعية عموماً. فليس لنا إغفال يسارية الشاعر جميل صدقي الزهاوي (ت 1936)، وقد تياسر قبل شيوع الماركسية بأرض العراق.

مرت السنون على الحزب، وهو يحتفل الآن بعامه الثالث بعد السبعين، بين قليل من المسرات وكثير من الموجعات. وبطبيعة الحال يتحمل الشيوعي حصة غير قليلة من وِزرِ العديد من الأحداث المؤلمة، التي انزلق فيها بغرور الكثرة الهابطة النوع بعد عام 1958. فلو سألنا أعضاء بارزين في الحزب، من الذين قضوا صامدين تحت التعذيب، كم منهم أدرك نظرية رأس المال؟ قد لا تجد لديهم سوى التعلق العاطفي في الانتساب. وأتذكر أني اطلعت، أخيراً في أرشيف جريدة «اتحاد الشعب» (25 آذار 1959) على برقية أبرقتها منظمة الحزب في منطقة من مناطق الأهوار إلى الزعيم عبد الكريم قاسم (قتل 1963) تطالبه فيها ببناء «مستوصف، وإقامة طريق بري، وتطهير الجهاز الإداري من الفاسدين والخونة وخاصة البلدية (يقصدون رئيسها الشيخ طارق الخيّون) والخروج من حلف بغداد»!!

ومعلوم أن مَنْ يعادل بناء المستوصف بالخروج من حلف بغداد (عُقد بين بريطانيا وباكستان وتركيا وإيران والعراق عام 1955) ليس له من السياسة ولا نظرية رأس المال من شيء. لقد وصلت شعبية الحزب، كثرة لا نوعية، في تلك الأيام إلى الذروة ـ مثلما هي الآن للقوى الإسلامية ـ أن تهتف الشرطة: «اسألوا الشرطة ماذا تريد؟ وطن حر وشعب سعيد»! ولا ندري ما إذا كان غالي زويَّد، أحد عبيد آل السعدون (حنا بطاطو، العراق)، وهو ثالث ثلاثة بتأسيس الطلائع الماركسية بالناصرية (1928) على دراية بالماديتين: التاريخية والديالكتيكية.

غير أن ذلك لا يقلل من دور الحزب الشيوعي بالغ التأثير في دعم الثقافة العراقية، فقلما تجد مثقفاً غير منتمٍ أو مؤازر أو محسوب عليه، وله دوره في دعم حقوق مكونات الشعب العراقي من كورد وغيرهم، فقبل تأسيس الأحزاب الكوردية تبنى الحزب حقوق هذه القومية (1935). لكن، ما أن أُخذت الحقوق حتى انفلق من الحزب حزب شيوعي كوردستاني. ولا أرى في هذا الانفلاق والتسمية غير مسايرة للشعور القومي، ومعلوم كان أمين الحزب لأكثر من ثلاثين عاماً كوردياً، من دون احتجاج عربي. كذلك دوره المتواصل في دعم حقوق النساء، وتكريس ثقافة المساواة الاجتماعية. إن الحديث عن تاريخ الحزب الشيوعي طويل ومتشعب، وذلك لكثرة الأزمات والمحن التي مر بها، فلكثرة قتلاه سُمي بحزب الشهداء. لهذا أخذ يعتمد على ما كتبه خصومه حوله، وكان كتاب مدير السجون عبد الجبار أيوب

(ت 1959) «مع الشيوعيين في سجونهم» ذا دعاية للحزب بين الجمهور (المطبعي، موسوعة أعلام العراق).

وبعد عامه السبعين ونيف، عاد الحزب وتقارب مع القوى الدينية، وأخذ أمينه يجالس المرجع السيد علي السيستاني، بعد أن كانت المرجعيات تفتي ضده، وتبارك تطبيق الشريعة في أعضائه (تموز 1963). واستغلَ أيضاً نتائج الغزو الأمريكي، وأصبح عضواً في مجلس الحكم، ومعلوم أن أمريكا قلعة الإمبريالية بينما الحزب كان حليفاً لقلعة الاشتراكية. وكانت جريدته «طريق الشعب» أول الجرائد الداخلة بغداد لحظة سقوط دولة البعث، وفرغ أحد أعضائه جام غضب ذوي الضحايا بصفعات النعال الشهيرة، وسط بغداد، لصورة رأس تلك الدولة.

حالياً يواجه الحزب تبايناً في وجهات النظر بين الأصوليين والتجديديين في داخله، ذلك إذا علمنا أن الأصولية غير مختصة بالجماعات الدينية، إنها سُنَّة التصادم بين القديم والجديد. بين أُصولية، تريد له البقاء على النقاء الماركسي وبين شباب يشرئب نحو التجديد والاعتدال، وإن كان الأمر تبديل اسم الحزب نفسه. بينما يتعامل الأصوليون مع اسم الحزب ونظريته كنصوص مقدسة، يربطون بها مشاق شبابهم الثوري، وهي عاطفة أكثر منها اعتقاد.

إلا أن مدار الحياة يفرض على الحزب التقدم برفع الحرج عمَنْ يرى في مفردة الشيوعية تعالياً على الواقع، مع أنها ببساطة لا تتعدى كونها مفردة يونانية تعني «المشترك». غير أن ربطها بمعاداة الدين كان سلاحاً فعالاً ضدها. ففي حفل الحزب الأخير ببغداد توافد ما يقارب الـ 120 ألف محتفل، كلهم من الضائقين من واقع الحال، ومن الباحثين عن بديل يمتلك برنامج خبز وأمن، لا نظرية لبناء المرحلة الخامسة من سلمِ مراحل التاريخ الماركسية، وهي الشيوعية!

أما أن يكون اسم الحزب مشدوداً إلى تلك المرحلة المنتظرة، والخارقة الخيال ما فوق تصور البشر، فهو النأي عن الحياة بعينه، وسبق أن شبهها علي الوردي (ت 1995) بدولة الإمام المهدي المرتقبة، ففيها يتساوى الناس لا ظالم ولا مظلوم (لمحات اجتماعية). وبالتالي تجدها مجرد مقاربة لفكرة دينية ليس على الناس إلا انتظارها. لكنهم حتى الظهور لا بد للناس، على حد عبارة الإمام علي بن أبي طالب (اغتيل 40 هـ): «من أمير برٍّ أو فاجر» (نهج البلاغة). أقول هذا وأتذكر جيداً أن رجل دين قال في مجلس خاص: لولا ما يشوب الشيوعية من اتهام لهتفت، وأنا اعتمر العمامة، بشعار: «وطن حر وشعب سعيد»! وأردف قائلاً: «وهل هناك مَنْ يبغض الحرية ويصد عن السعادة»!

في الختام، لا ندري ماذا سيسفر عن مؤتمر الحزب الثامن، الذي حان ميقات عقده، ويكثر الجدل حول مكان انعقاده: أببغداد أم مكان آخر، هل سيطل الحزب باسم جديد كاتحاد الشعب مثلاً، ويتحول إلى الليبرالية تماماً؟! أم ينتصر أُصوليوه ويبقى في وادٍ والجماهير في واد؟

[email protected]