الرجل الأسود في البيت الأبيض

TT

نشأت ضعيفاً وخاسراً. ومنذ نشأتي وقفت مع الضعفاء والخاسرين. مع الجزائريين والفلسطينيين. ومع السود والفقراء. وضد كل أشكال التكبر والتعجرف والتمييز، وفي عام 1968 أو 1969 عثرت على قصة امرأة تدعى روزا باركس دخلت تاريخ البشرية لأنها كانت أول «زنجية» تخرق قانون التمييز في أميركا. صعدت إلى الباص واتخذت لنفسها مقعدا في الصف الأمامي بدل أن تتجه فورا إلى المقاعد الخلفية المخصصة للعبيد! ومنذ حوالي العام قرأت أن روزا باركس قد توفيت. وخامرني شعور غريب بأنني أشارك في جنازتها.

لقد منحتني تلك المرأة البسيطة دون أن تدري، «سبقاً» صحافياً دون أن أقصد. فقد كنت أول صحافي عربي أثار قضيتها في بلاده. أو هذا ما أعتقد. أو أرجح.

أمس حضرت على القناة الرابعة في إم. بي. سي حوارا أجراه كبار كتاب أميركا مع المرشح الرئاسي الأسمر باراك اوباما. وتذكرت كم قطع الرجل الأسود خلال عملي الصحافي من الأشواط في عالم الرجل الأبيض.

كنت أشعر بالتقزز من أخبار الفتى الأبيض في جنوب أفريقيا ثم رأيت نلسون مانديللا يخرج من الأسر ويشرف على إحدى أهم المصالحات والمسامحات في التاريخ الإنساني. وشعرت بحزن وغضب حقيقيين لمقتل مارتن لوثر كنغ الذي اغتيل لصد حركة التحرر التي يقودها، ثم رأيت كولن باول وزيرا للخارجية. وها هو الآن الرجل باراك اوباما، يقدم نفسه على أنه ألمع المرشحين، لولا السمرة والشعر الأجعد. وشعرت بزهو وأنا أرى رجالا مثل جورج ول، يتصرفون بما يشبه الخضوع في حضرة السناتور اوباما.

من صفوف طويلة من العبودية والفقر والاضطهاد يتقدم الرجل الأسود نحو البيت الأبيض. لم يعد الأميركي الأسود عبدا ولا رقا ولا فقرا، بل أصبح كفاءة تتقدم مرفوعة الرأس لكي تقود عالما من البيض. وقد اختفت من المشهد الاميركي تلك الوجوه العنصرية التي كانت تدعو إلى التمييز والحقد. ولم يعد لها منبر ولا مكان. ولا يقدم اوباما نفسه على أنه سوف ينتقم من سنوات العبودية والمرارة. على العكس. إنه مرشح المصالحة بين العرقين والبشرتين والتاريخين.

وهو رجل هادئ. بالغ الهدوء. ولا مكان في نفسه أو في سلوكه للذين اعتقدوا أن قضية الحرية تخاض بالزعيق والصراخ والوعيد. إنه ينافس المرشحين البيض بالبرامج التي يطرحها، بالمعرفة، بالدعوة إلى المساواة، بالتشديد على أن الفقر والمرض والخوف والقلق لا تميز بين الألوان.

هذا الرجل الأسود قادم من كلية القانون في هارفارد. أنيق ووسيم مثل سدني بواتييه، عامل الكاراج الذي أصبح أشهر وجه أسمر على الشاشة. والأكثر احتراما بين رجال هوليوود. للمرشح اوباما كتاب بعنوان «أحلام أخذتها من أبي» وقد لا يحقق حلم والده بالوصول. لكنه بالتأكيد بداية الحقيقة التي لم يكن يتخيلها أحد.