المستقبل!

TT

كان يجلس على طاولة في فندق فخم في إحدى عواصم الخليج، منشغلا عما حوله بالموبايل الذي في يده، وما أن أنهى مكالمته حتى بدأ في كتابة رسالة قصيرة على نفس الجهاز، وبينما هو يكتب رن موبايل آخر في جيبه، فرد عليه وكانت يده الأخرى ما زالت تكتب الرسالة على الجهاز الأول، وأنا أراقبه، حتى جاء إلى الطاولة المجاورة رجل آخر وضع أمامه أربعة موبايلات، تأمل بهو الفندق ثم نادى على النادل، وبدأت موبايلاته الأربعة ترن الواحد تلو الآخر.. هنا أخذتني حالة المراقبة، شاركني فيها صاحب الموبايليين الذي بدت في نظراته، إما حالة غيرة أو حالة استياء.

لم تكن تلك حالة خاصة، ففي ثلاث عواصم خليجية، زرتها خلال أسبوع واحد، كانت الظاهرة نفسها، الموبايلات ترن على موائد الغداء والعشاء، وكذلك الرسائل القصيرة ترد وتبعث في وسط الدعوات واللقاءات الرسمية وشبه الرسمية، من دون مراعاة لأبسط قواعد اللياقة، ولا أدعي أنني سأعطي القراء درسا في قواعد «الإتيكيت»، فأنا من ذات الحضارة وذات الظروف، وبي أيضا ذات العيوب، ولكن ما يهمني هنا هي علاقة الموبايل بفكرة الزمن: الماضي والحاضر والمستقبل.

الموبايل، أو الموبايلات الأربعة، هي رمزية للتأكيد على «الآن»، أي الاتصال الآني الذي يشغلك بـ«اللحظة»، هو ذلك الخط الفاصل بين الماضي والمستقبل. عموما، في أي مجتمع له مستقبل أو إرادة للمستقبل، هناك ثلاثة عناصر للحياة (الإنسان والزمان والمكان). الزمان جامد وكذلك المكان لا يتحركان إلا بوجود العنصر الثالث وهو الإنسان، أي أن الإرادة الإنسانية هي المحرك، وهذا ما نلحظه في ثقافة الغرب ولا نلحظه في الشرق.

فكلمة (المستقبل) في اللغة العربية ليست لها دلالات كلمة (Future) الإنجليزية. كلمة المستقبل تحمل معنى الاستقبال، أي أن المستقبل شيء يأتي إليك وتتلقاه، وليس الشيء الذي تذهب أنت بإرادتك إليه أو تصنعه. دلالات كلمة المستقبل، تعني وقوف الإنسان في مكانه بانتظار ما هو قادم نحوه لا يغيره أو يبدله وإنما يستقبله كما هو، فهي فكرة ترى أن الزمان هو العنصر المحرك لا الإنسان.. والتراث العربي ممتلئ بهذه الفكرة ومستسلم لها:

هي الأمور كما شاهدتها، دول من سره زمن ساءته أزمان

«الموبايل، هو الانشغال التام بـ«الآن»، الانشغال بـ«اللحظة»، هكذا قلت لأحدهم ، فانزعج وقال لي إذا كنت ترى في كلمة (المستقبل) قدرية واستقبالا، فلماذا لا تكون إيجابيا وتنظر إلى الكلمات الأخرى في اللغة العربية مثل (الغد) أو (يصبح) أي أن يكون في حالة أخرى في الصباح، أليس في هذا تفعيل لدور الإنسان كمحرك لعنصري الزمان والمكان؟

استوقفتني الفكرة، ثم عقدت مقارنة بين فعل (يصبح) في اللغة العربية والفعل الإنجليزي (Become)، فوجدت الفارق ذاته، وخصوصا في صيغة الاستمرارية (Becoming)، التي تدل على أن في الفعل حركة وليس جمودا، أما كلمة (يصبح) عندنا، ورغم استخدامها لغويا لغرض التحول كأن تقول «أصبح الماء جليدا»، إلا أن دلالتها الأقوى هي الدلالة الزمنية، أي انتقال من حالة النوم الليلي ليجد الإنسان نفسه في حال أخرى عندما يفيق صباحا، (أو ليجد الماء نفسه قد تغير إلى جليد)، أي أن الإنسان غائب وخارج عن عملية الإصباح هذه، فهي عملية حدثت وهو نائم.. والأمثال الشعبية زاخرة بمثل هذه القناعات (تبات نار.. تصبح رماد). في هذا طبعا تقسيم للزمان إلى وحدات تحدث وليس للإنسان دور في صناعتها، الزمان القادم أو البعيد هو زمان يحدث لنا ولا نصنعه، فقط نستقبله، بحلوه ومره فيصبح مستقبلنا.

واجهني محدثي بسؤال استنكاري «ألا تؤمن بالقضاء والقدر؟»، قلت بلى، ولم يسمعني، لأنه رفع موبايله ليرد على مكالمة، ورحت أفكر في هذه الورطة.. نعم، انا أؤمن بالقضاء والقدر كجزء من العقيدة، ولكن ما علاقة ذلك بالمستقبل! فأنا كنت أحاوره حول دلالات كلمة محددة وهي (المستقبل)، فأخذني إلى مسائل إيمانية، رغم أن هدفي كان معرفيا، حول أصول الكلمات وعلاقاتها بالحياة التي نعيشها، هل هو عامل مساعد أم عامل معوق لتقدمنا ولو خطوة واحدة إلى الأمام.

ذكرني محدثي بمقولة أخرى «هدامة» كتبتها في مقال سابق، بعنوان «حتى لا يفوتنا القطار»، زعمت فيه أن لغتنا هي لغة غير مسؤولة، فعندما تقول (فاتني القطار)، فإنك تلقي بالمسؤولية على القطار لا على نفسك، فالقطار هو المسؤول عن عدم ركوبك فيه والمضي في رحلتك وليس أنت الذي تأخرت عن موعد انطلاق القطار. بينما في اللغة الإنجليزية يقول المرء (I missed the train)، أي أنا الذي فشلت في المجيء بالموعد المحدد لانطلاق القطار، والمسؤولية تقع علي وحدي لا على القطار الذي يصل ويغادر وفق مواعيد زمنية محددة.

إن مسألة (فاتني القطار)، هي مسألة فرعية في لغتنا اليومية إذا ما كان الحديث عن مفهوم أشمل وهو (المستقبل)، لكن هذا الأمر الأكبر هو مجموع الأفعال الصغيرة المصاحبة، التي يكون فيها الإنسان العربي مفعولا به لا فاعلا. (المستقبل) بالمفهوم الذي نتحدث به في لغتنا ينتزع من مثلث الإنسان ـ الزمان ـ المكان، أهم أضلاعه، وهو الإنسان، ويخرجه من المعادلة ليصبح متفرجا لما يفعله به الزمان والمكان. ومن هنا، تبدو مقولات مثل «خروج العرب من التاريخ» منطقية، لأن حديثنا عن الزمان أو التاريخ يؤكد دورنا كمتفرجين فقط على ما يحدث لنا.

ولكن، ما علاقة ذلك بقضايانا الكبرى، مثل ما يحدث في فلسطين والعراق، أو ما علاقة ذلك مثلا بالخطط التنموية الخمسية والعشرية وغيرها، التي تضعها الحكومات العربية، وما علاقته حتى برفض الشارع العربي للرئيس المصري الراحل أنور السادات؟

انظر إلى حديثنا عن مستقبل العراق، نتحدث وكأن العراقيين خارج صناعة هذا المستقبل، هم فقط متفرجون ومنتظرون لخروج القوات الأميركية ولسحب إيران نفوذها، هم في انتظار «المستقبل» أن يأتيهم «بمستقبل» أفضل!

انظر إلى حديثنا في موضوع فلسطين ترى أننا نكرر تلك المقولات التي تنتجها «إمارة حماس» في غزة ، ننشغل باقتتال الفصائل كانشغالنا بالموبايل، ننشغل بالاقتتال الذي يدور الآن انشغالنا باللحظة، غير عابئين بالقتل فهو لم يعد يفزعنا لأننا في انتظار المستقبل.

عندما ذهب أنور السادات إلى القدس، لعنت الجماهير العربية السادات الذي أراد أن يصنع المستقبل بشروطه كمنتصر في حرب أكتوبر 1973، لا أن ينتظره ويتقبل ما يمليه المستقبل عليه. رفض السادات مربوط مباشرة برؤيتنا لدورنا في صناعة المستقبل، نحن نريد فقط أن نتلقى ما هو قادم من الأيام كما هو ونخاف أن نقوم نحن بصناعته، نريد أن ننام حتى يأتي الغد إلينا، (وحتى تبات النار لتصبح رمادا).. نحن قوم خائفون من الحركة وإذا ما امتلك أحدنا الجرأة والشجاعة للمساهمة في صنع المستقبل شتمناه ليل نهار، لأن في وجود هذا الشخص نفيا لوجودنا، وجود الشخص المتحرك يعني أن الحركة ممكنة، وأن ما نفعله هو مجرد عبث سخيف بالموبايل.

اللغة مثل العربة، تحمل الأفكار والرؤى والمشاعر، والبشر هم الذين يسوقون هذه العربة. مشكلتنا أننا نسافر حتى الآن بعربات فارغة في معظم الأحيان، هذا إذا سافرنا.. لأن معظمنا جالس أمام العربة ينتظر القادم من الزمان.. في حالة الانتظار هذه جميعنا مشغول برنين الموبايل أو برسالة قصيرة ربما تكون قادمة من (المستقبل)!