حكاية مقهى يشبه الكتب.. إلغاء الطبقية

TT

عشية الثورة الفرنسية كان في باريس 1800 مقهى. وكانت باريس نفسها، قد تحولت «إلى مقهى كبير». وكانت جميع هذه المحلات تقدم القهوة، لكن الاختصاصات كانت مختلفة: مقهى للأدباء، مقهى للموسيقيين، مقهى للممثلين، مقهى للضباط.. إلى آخره.

لقد جمع المقهى بين الناس والفئات والطبقات. وعلم الناس إتقان فن المحادثة. وألغى تلك الطبقية التي كانت قائمة في «الصالونات الأدبية» التي لا تدخلها سوى فئة معينة. وسوف يقول هارولد روث في شرح «فلسفة» المقهى إن «للمحادثة سلطة غامضة على ولادة الأفكار الجديدة. فالرجل الذي طور نفسه وعودها على تبادل الأفكار هو أكثر قدرة من أولئك الذين لا يشاركون في الحوار مع الآخرين».

أي أن المقهى كان بالنسبة إلى البعض، معهدا آخر أو مدرسة إضافية، وليس مجرد مكان لاحتساء البن المغلي والشاي الآتي من بلاد سيلان. ورأى بعض مؤرخي فرنسا في المقهى مسرحا لممارسة الديمقراطية والمساواة: الأماكن موحدة والأسعار موحدة، بعكس المسرح، مثلا. ففي المسرح أو الملهى، تؤخذ بما يقدم لك ويعرض عليك، وتنسى نفسك، أما هنا فأنت دائم الحضور ودائم المشاركة، صاغيا أو متحدثا. قبل أن تنتشر الصحف ويسهل اقتناء «خير جليس»، كان الفرنسي يذهب إلى المقهى ليسمع الأخبار من الآخرين، ويصغي إلى الحكايات الساحرة التي يرويها المسافرون والعائدون من البلاد الأخرى. ولذلك عمدت المسارح نفسها إلى إقامة مقاه ملحقة بها، تجتذب الممثلين والرواد على السواء. ومن ذكريات عمري التي لا تكتب بتفاصيلها ولا تحكى بأسمائها، أنني ذهبت في أواخر الستينات لإجراء مقابلة مع إحدى سيدات المسرح الفرنسي. وأعطتني موعدا في المقهى المجاور لعملها ذلك المساء. ودعوتها إلى العشاء الوحيد الذي يمكن لي أن أدعو إليه دون الذهاب إلى البنك لطلب قرض. وكان عبارة عن ساندويش جبنة غرويير مع الكبيس. وتكررت زياراتي إلى المقهى. وعشاءات جبنة الغرويير. وأصبحت أخشى من نفاد اثنين: الجبنة وتكلفتها!

حيثما حل الأدباء، لمعت أسماء المقاهي. واشتهر مقهى «هاردي» بحضور الكسندر دوما وبلزاك. وكان فلوبير والشقيقان غونكور يذهبان إلى مقهى «ريش» وهو المقهى الذي سيعطي اسمه إلى أحد أشهر مقاهي القاهرة. وربما أشهرها، لولا أن نجيب محفوظ طاب له عبق العتق في القاهرة القديمة في الفيشاوي. وكان بين رواد «النابوليتان» سارة برنار واناتول فرانس وموريس بارس (مؤلف روايات كثيرة حول المشرق العربي) والنحات رودان والرسام مونيه. لم تقتصر «ثقافة المقهى الأدبي» على فرنسا، بل بدأت تنتقل إلى ايطاليا وبلدان أوروبا. وسوف نرى رجالا مثل غوتيه وشوبنهاور والموسيقار برليوز في «الكافيه غريكو» ثم شيللي وكيتس وبايرون.

إلى اللقاء