النكبة الكبرى

TT

أحيا الفلسطينيون والعرب على استحياء الذكرى 59 لنكبة فلسطين والذكرى الأربعين لاحتلال القدس، وسط مشاهد تدمي القلوب عن اقتتال الإخوة في فلسطين، وتعرّضهم جميعاً لهمجية القتل الإسرائيلي المستمرّ، قبل وبعد هذه الذكرى المؤلمة. وفي الوقت الذي أصدر فيه إيان بابييه كتابه «التطهير العرقي للشعب الفلسطيني»، الذي يوثّق فيه الجرائم والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، ومئات القرى التي محتها إسرائيل من الوجود، استقبل الإعلام العربي ذكرى النّكبة بطريقة تشير إلى مشكلة جوهرية يعاني منها العرب بين صفوفهم، بالإضافة إلى الاحتلال الأجنبيّ، وزرع بذور الفتنة وسوقهم إلى حروب أهلية تضعفهم جميعاً وتضعف صوتهم ودورهم التاريخي إلى حدّ خطير. فبالإضافة إلى اقتتال الإخوة في فلسطين، والحديث عن عراقيين من خلال مذاهبهم، الأمر الذي رفضوه جميعاً إلى حدّ قريب، هناك من يهادن على سيادة البلاد ومستقبلها بذرائع وأعذار مختلفة لن يتذكّرها أحد، ولكنهم سيتذكّرون نتائجها التي ستترك مرتسماتها على الواقع والأجيال. وفي الذكرى الـ59 للنكبة أيضاً يُصدر الصليب الأحمر تقريراً «ينتقد إسرائيل لتغييرها معالم القدس الشرقية»، الذي يعني في حقيقة الأمر احتلال وتهويد القدس الشرقية، وطرد المسلمين والمسيحيين منها، كما يصدر مركز الأبحاث الملكي البريطاني دراسة تقول لا توجد حرب أهلية واحدة في العراق بل حروب أهلية.

وكلّ ما تقرأه في الإعلام العربي يتعامل مع هذه المعطيات، كما نقلها عن الإعلام الغربي، من دون أن نجد خبراً واحداً ينطلق من مرجعية عربية، أو صاغته أقلام ترفض هذا المنطق برمّته، وتنطلق من منطق عربي يعيد لأذهان العالم أجمع صوت الحقّ العربي كما هو، وكما نصّت عليه الشرائع الدولية، وكما يليق بنا أن نسلّمه للأجيال القادمة، إذا لم يكتب لجيلنا أن ينال شرف تحقيقه. فمنذ سنوات والانزياحات قائمة ومستمرّة في اللغة وطريقة التعبير، بحيث أصبحت العودة إلى جوهر الصراع تبدو نشازاً. ويكاد العرب ان يكونوا الوحيدين الخجولين من التأكيد على حقوقهم وكرامتهم ليل نهار، رغم كلّ المتغيرات والمعطيات، لا بل بدأت أقرأ إعلاماً غربياً أجرأ على طرح حقوق العرب من العرب أنفسهم. فها هو روني كاسرلز، من جنوب افريقيا، يكتب منذ أيام أنّ «إسرائيل» تقيم على 87% من فلسطين، والفلسطينيون يقبلون بذلك رغم أنّ القرار 181 أعطاهم أكثر من ذلك بكثير، كما أنّ الدولة العنصرية الإسرائيلية تعمل وفق قانون حقّ العودة لليهود، الذين يفترض أنّهم كانوا هنا منذ آلاف السنين، ولا يقيم العرب الدنيا ولا يقعدونها من أجل حقّ عودة لبيوت ما زالت مفاتيحها معهم، ولقرى وثّق بابييه مسؤولية الكيان الصهيوني في حرقها وإزاحتها عن الخريطة. أوَلا نرى ساركوزي، الرئيس الجديد لفرنسا يُدشّن عهده بتكريم شهداء «المقاومة»، حيث أنّ أول قرار يتّخذه كرئيس لفرنسا هو «الطلب من وزير التربية الوطنية المقبل أن يقرأ رسالة كتبها مقاوم شاب لعائلته قبل أن يعدمه الألمان عام 1941، في بداية كلّ عام على جميع تلامذة فرنسا». إذاً، الأمم الأخرى تكرّم ذكرى المقاتلين من أجل حريتها، وتعتبرهم مقاومين وشهداء وليسوا إرهابيين كما يحلو للغرب أن يطلق على المقاومين العرب!

النّكبة الكبرى التي يعيشها العرب اليوم، بالإضافة إلى نكبة فلسطين والعراق، وما يُخطّط ويُنفّذ ضدّ هذه الأمة، هي غياب القضية الكبرى عن حياة العرب وتشويش أذهان الأجيال، من خلال الاختراق الإعلامي المعادي، الذي وجد له بعض الأقلام والأصوات في العالم العربي، فأصبحت هذه الأزمة أزمة امّة تبحث أولا عن تعريف قضيتها وأحقيّة هذه القضية وسط تواطؤ وتجاوز وانشغال بالصغائر والمصالح الفردية والمجد الشخصي أحياناً أو المنفعة القصيرة المدى والمحدودة، أحياناً أخرى، على حساب حقّ تاريخي يجب أن يكون البوصلة الوحيدة التي توجّه كلّ كلمة وكلّ عمل سياسي، أو دبلوماسي يقوم به من يدّعون قيادة البلدان والسير بها وبشعوبنا إلى برّ الأمان.

وليس من الضروري أن يصل الأمر حدّ الحرب الأهلية، كي ندرك مصدر كلّ النكبات على هذه الأمة، حيث كان النزاع والاقتتال على مصالح صغرى الطريق الأقصر لخسارة قضايانا الكبرى. فكيف انسحب إعلامنا من الحديث عن الشهداء؟ لماذا لا يحقّ لنا أن نمجّد الشهداء الذين رووا بدمائهم تراب الأوطان وصدّوا محتلا غاشما كان يطمح إلى معركة أكبر وأوسع؟ لماذا لا ننطلق من منظورنا نحن للأحداث ونصيغه بلغتنا مهما كره الآخرون؟ ولماذا نخاف من أن نقول من نحن وماذا نريد ونبتغي؟ ولماذا ندخل في دائرة مفاهيمهم من «نزع سلاح المقاومة» إلى «التحريض ضدّ إيران» إلى «لعبة الدول المعتدلة»، إلى إثارة الفتنة بين الإخوة، إلى اللغة الطائفية المقيتة؟ هل يمكن أن نستيقظ يوماً لنرى أنّ العرب قرّروا أن يصيغوا أخبارهم بلغتهم ومن منظورهم، وبطريقة تعكس رأي وطموح كلّ إنسان في هذه الأمة؟ هل يمكن أن نخرج من دائرة تفكيرهم ومخططاتهم لنضع مقابلها دائرة تفكيرنا ومخططاتنا التي تخدم مصالح أمتنا بالطريقة التي نودّ ونرتأي؟

ما هذا التضليل الإعلامي الذي نقرأه بلغة عربية؟ أين تكمن المشكلة، وما سبب غياب المنظور العربي والموقف العربي الحقيقيّ في كلّ ما نقرأه من أخبار، وكلّ ما تنتجه مراكز الأبحاث من تحليلات سياسية ومصطلحات، وما سبب غياب منظور عربي يعتبر القضية الأمّ هي الموجّه الأساسي لكلّ ما يفعل ويقول؟ أوَليس الاحتلال البغيض ورفض الغرب لخيار الشعب الفلسطيني الديمقراطي، هو الذي سبّب اختناق الشعب الفلسطيني، بالإضافة طبعاً إلى العقاب الجماعي والتطهير العرقي الذي تمارسه قوّات الاحتلال الإسرائيلي ضدّ الشعب الفلسطيني الأعزل؟ نحن ندرك حال الفرقة والانقسام والغرق في تفاصيل شخصية لا علاقة لمصلحة الأوطان بها. بعد كلّ هذه الأعوام، وبعد عودة ثانية للاحتلال والاستيطان، إلى أراضي العرب وديارهم أصبح من الملحّ على العرب أن يصيغوا معايير سياسية قيّمة تفرز الغثّ من الثمين، وتضع المعيار الوطني الذي يمثّل مصلحة الشعب والوطن في مكان لا يمكن للصغار التطاول عليه تحت مسمّيات مختلفة يخدمون من خلالها صِغَر طموحاتهم وأنانيتهم متلبّسة بلباس الوطنية. أوَليس من الضروري أن يمتلك الجميع الجرأة كي لا يسمحوا للعميل بالتطاول على الشهيد ولا للمتواطئ بتناول الوطني الحريص؟ لم يعد ممكناً في العالم العربي الاستمرار بنهج المسايرة وتسيير الأمور بغضّ النّظر عن حرب القناعات وتناقض الانتماءات، ولا بدّ من أن نسمّي جميعاً جوهر النّكبات التي جرّت الويلات على هذه الأمة، ألا وهي اختباء البعض وراء مظاهر الوطنية والحرص، بينما هم يضحّون بمصلحة الوطن ومستقبله من أجل أسبابهم الأنانية الصغيرة والضّيقة. صحيح أنّ المخطط على أمتنا خطير وكبير، ولكنّ وسائل تنفيذه تعتمد على أدوات من الداخل لا بدّ من تعريتها كي يحمل الحريصون والوطنيون والمقاومون مشعل المستقبل، من دون أن يتمكن الآخرون من تمجيد ظلمتهم أو تقاعسهم أو تخاذلهم. لقد غدا واضحاً أنّ أعداءنا يستهدفون عروبتنا ووجودنا، ولم تعد تُجدي محاولات دراسة وجهات النظر، بل لا بدّ من فرز معايير الوطن والقضية الكبرى والسير بهديها فقط لأنها المعايير الوحيدة التي تفضي بنا إلى برّ الأمان مهما طال الزمن.