حوارات في رحاب قرطبة

TT

التقى لفيف من رجال الدولة الرؤساء السابقين لبلدانهم في قرطبة في الأسبوع الأول من مايو الجاري، مع جماعة من رجال ونساء يمثلون الطيف السياسي العريض في المغرب، والأردن، والبحرين لدراسة المراحل التي بلغها الإصلاح السياسي في الممالك الثلاث، وحرية التنظيم فيها، ومستوى الحوار بين السلطات الحاكمة فيها والمجتمع السياسي والمدني المشارك في السلطة والمعارض لها.

دارت بعض الجلسات في قصر الخلافة، وزرنا المسجد الجامع ذا الألف عمود. أعمدة تحاكي أقواسها غابة من النخيل أبدع مهندسوها ومنفذوها وخلدوا أثرا من روائع عبقرية الإنسان.

آثار قرطبة برهان شاهد على مقولة روبرت بريفلوت (1876 ـ 1940) وهو طبيب بريطاني شارك في الحرب العالمية الأولى ثم تحول من الطب إلى الكتابات في الأنثروبولوجيا والاجتماع، في كتابه «تكوين الإنسانية» قال: «التنوير الحقيقي لأوروبا هو الذي حدث نتيجة إحياء العرب الثقافي لأوروبا. أسبانيا بوابة ذلك الإحياء وليست إيطاليا هي مصدر المولد الحضاري لأوروبا». وقال: «كانت أوروبا متراجعة باستمرار حتى بلغت غاية الانحطاط والتوحش، بينما تألقت عواصم العالم الإسلامي في بغداد والقاهرة، وقرطبة، وطليطلة، وكانت عامرة بالثقافة والتوقد الفكري. في تلك العواصم نشأت الحياة الحضارية الجديدة التي جسدت مرحلة عالية في تطور الحضارة الإنسانية. إن الحياة الإنسانية الجديدة كانت نتيجة مباشرة لإشعاع الحضارة الإسلامية». وقال: «من الراجح أنه لولا العرب لما ظهرت الحضارة الأوروبية الحديثة. ومن المؤكد أنه لولاهم لما اكتسبت الحضارة الأوروبية الحديثة الصفات التي مكنتها من التسامي على كافة مراحل تطور الإنسانية سابقا». هذه الحقائق يعرفها ويكررها كثير من الكتاب والمثقفين الغربيين. ولكن التيار الغالب في الحضارة الغربية لم يتعامل مع هذه الحقائق بموضوعية.

قال مونتجمري واط: «إن مشاعر الغربيين نحو الإسلام كانت في الغالب شبيهة بشعور الطبقات المحرومة في دولة كبيرة. هؤلاء يتجهون لانتمائهم الديني للتعبير عن خصوصيتهم في مواجهة الطبقات العليا. هكذا فعل الأوروبيون تجاه الحضارة الإسلامية المتفوقة: تحصنوا بمذهب القديس جيمس الكمبستولي، واندفعوا في حماسة الحركة الصليبية. كذلك شوه الكتاب والقادة في أوروبا صورة الإسلام لتعويض أنفسهم عن شعورهم بالدونية». وقال الأستاذ واط: «أوروبا كانت تخشى الإسلام على هويتها. لذلك أنكرت دينها له وبالغت في اعتمادها على التراث اليوناني والروماني. لذلك فإن علينا اليوم أن نخلص أنفسنا من هذا الزيف. وأن نعترف بحجم ديننا الحضاري والثقافي للعالم الإسلامي».

قرطبة تحيي ذكرى تحكي التسامح الديني الذي مارسته تلك الحضارة كما تحكي عن التعصب الأعمى الذي مارسه فرناند وايزابيلا، وما اشتهرا به من تطهير ثقافي شوه الروائع المعمارية ولكنه عجز عن طمسها. ولم يستطع أحدنا أن يواصل حواراته في تلك المواقع من دون أن يكون عقله وقلبه مشدودين إلى ذكرى أمجاد: «أخلى منابرها من في مقابرها».

مع ذلك ركزنا على موضوع دراستنا: الإصلاح السياسي الهادف لملكية دستورية هدف معلن في الممالك الثلاث. وفيها، والحق يقال، درجة ملموسة من التعددية السياسية والمدنية، وفي ثلاثتها درجات متفاوتة من الحوار بين الأطراف السياسية حول مطالب الإصلاح السياسي، ودرجات من تقبل خوض المواطنين في هذه القضايا وبحثها في المنابر الأممية المعنية.

إن الأمر الذي لا شك فيه هو أن حرية التنظيم السياسي في البلدان العربية دون المقاييس الدولية. وأن درجة الحوار بين أطراف الجسم السياسي كذلك من دون المستوى المطلوب.

الآن هنالك ظاهرتان جديدتان:

الأولى: أن العالم العربي عامة متخلف عن بقية العالم بالمقياس الديمقراطي.

والثانية: أن العالم نفسه الذي شهد موجة تحول ديمقراطي عاتية في التسعينيات من القرن العشرين يواجه الآن نكسة لأربعة أسباب.

أسباب النكسة هي:

أولا: الحرب العالمية ضد «الإرهاب» أباحت لكثيرين بتر الحريات لأسباب أمنية.

ثانيا: المغامرة الأمريكية في العراق وما صنعت من فوضى باسم غرس الديمقراطية، جعلت كثيرين يفضلون النظام والاستقرار الأوتوقراطي.

ثالثا: إيرادات النفط مكنت كثيرين من دعم أجهزة القهر وشراء الذمم.

رابعا: كثير من النظم الديمقراطية الجديدة عجزت عن حل مشكلتي الفقر والبطالة وغطست في مستنقع الفساد.

أقول: أوضحت في كتابي «الديمقراطية راجحة وعائدة» أن النظم الديمقراطية مهما كانت مشاكلها فهي أفضل من الأوتوقراطية. وأضيف أن النظم الأوتوقراطية مهما ادعت تواجه في عالم اليوم حصارا متعدد الجبهات فالتعليم، والإعلام العالمي، وانتشار ثقافة حقوق الإنسان وغيرها من العوامل جعلت شرعية النظم تقاس «بمسطرة» ديمقراطية.

وصارت الساحة مفتوحة لحركات غلو تطرح بدائل ماضوية فاعلة في الاحتجاج ولكنها ـ إن أفلحت ـ سوف ترهن الحاضر والمستقبل لمحطة ماضوية بائدة. وأسلوبها في الاحتجاج قد أثار ضدها قوى دولية يجبرها أمنها القومي وطمعها في السيطرة، أن تتدخل في شؤون البلدان المعنية.

ربما دفعت هذه الظروف القوات المسلحة في البلدان المعنية أن تقدم على الاستيلاء على السلطة. ولكن اتضح أن تجربة القفزة الانقلابية كما في السودان وباكستان، كتجربة القفزة الماضوية كما في أفغانستان والسودان (أيضا) كلاهما يعمقان الأزمات ولا يحلانها.

ينبغي أن تجرم الانقلابات العسكرية باعتبارها جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب لما تنطوي عليه من اعتداء مسلحين على قوى مدنية غير مسلحة.

الخيار الوحيد الذي يمكن أن تقبله النظم العربية بوعيها الذاتي أو بالضغط الشعبي هو التحول الديمقراطي. فتصبح الملكيات ملكيات دستورية، والجمهوريات جمهوريات ديمقراطية.

هذا يتطلب تحركا واسعا وتضحيات تقدمها القوى السياسية والمدنية من أجل التحول الديمقراطي.

هذا التوثب الديمقراطي يتطلب تفهما دوليا لا يحاول تصدير الديمقراطية، فهذا كان وسوف يظل فاشلا، لأن الدول مهما ادعت سوف تخلط صادراتها الديمقراطية بمصالحها القومية.

ولكن يقف الموقف الدولي عند حد تحديد مقاييس معينة حول حقوق الإنسان، وحرية التنظيم، واستقلال القضاء، ونزاهة الانتخابات، وإعلان التعامل الايجابي مع الدول التي ترقي ممارساتها السياسية للمستويات المطلوبة.

هذا الاعتراف السياسي ينبغي أن تصحبه حزمة للدعم الاقتصادي أهمها: إعفاء الديون الخارجية ـ فتح المجال التجاري ـ دعم الاستثمار ـ الدعم التنموي وهلم جرا.

ربط الشرعية الدولية بالحكم الراشد، ومكافأة الحكم الراشد بالتعاون التنموي، هي الوسائل الأفضل لتشجيع القوي الديمقراطية السياسية والمدنية لمزيد من الإقدام على بذل التضحيات للخروج من مستنقع الاستبداد والفساد والفقر والبطالة.

هذا وحده هو البديل لاستمرار حالة التعثر الذي يمثل استعدادا ممهدا لطموحات الغلاة، وأطماع الغزاة.