مفهوما الفرد والجماعة.. الوصل والفصل

TT

يرى أصحاب النظرة الجماعية أن الجماعة هي الوحدة الأساسية للحقيقة، وهي القيمة المطلقة وعليه فإن هوية الفرد تقررها الجماعة والجماعة هي الوسيط الذي من خلاله يتعامل الفرد مع الآخرين، وبالتالي فإن شخصية الفرد تذوب في الجماعة، ويصبح الفرد كالآلة التي تحركها الجماعة متى شاءت. كما أن أصحاب النظرة الجماعية يرون أن الإنجاز هو نتاج المجتمع، ويتوقف دور الفرد على التعبير الضمني عن عملية التقدم الجماعية.

فيما يرى أصحاب النظرة الفردية أن الشخص هو وحدة الإنجاز، فالإنجاز عندهم هو شيء جديد يحققه الفرد ويتجاوز به ما تم تحقيقه، وأن الفرد هو المعيار الحقيقي، وهو القيمة المطلقة، وما المجتمعات إلا عبارة عن مجموعة من الأشخاص مع اعترافهم باعتماد نجاح الفرد على نجاح الآخرين.

إن الفردية لا تعني (العزلة) كما يفهم البعض والتي هي انعكاس للصورة الشعبية عن الفرد الذي يرفض التعايش مع المجتمع، ويلجأ إلى الصحارى والجبال، لذلك ينبغي أن ندرك أن العزلة ليست هي جوهر الفردية.

والحقيقة أن الفردية ليست كما هي في الصورة الشعبية، وليست تعني أن يسعى الإنسان في الحياة بعيداً عن الجماعة التي من حوله ، بل إن معنى الفردية أن الفرد هو العنصر الأساس والفعال والمكون للمجتمع، وهو منبع الإبداع والتطور، لأن المجتمع عبارة عن مجموعة من الأفراد، فإذا استشعر كل فرد من أولئك الأفراد مسؤولياتهم وكانوا مضطلعين بها، تحقق للمجتمع ما يريده أصحاب النظرة الجماعية من إنجاز عام وشامل وتحققت الفردية الحميدة المطلوبة لأنه لا يتصور وجود مجتمع ناجح مكون من أفراد فاشلين أو غير قادرين على تحمل مسؤولياتهم.

أقول ان الفردية هي الأساس الذي ينبني عليه المجتمع ومعنى كون الفرد مسؤولاً يعني أن يختار بوعي وحذر، ويتحمل نتيجة تلك المسؤولية بكل تبعاتها، وما يترتب عليها. قال تعالى: «وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشورا إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى». وقوله تعالى: «يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها».

لذلك فإن الإسلام قد قرر قاعدة لتغيير المجتمع مبنية على تغيير الأفراد «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، فأعاد الله عز وجل تغير المجتمع إلى تغير أنفس أفراده، فإذا غير الأفراد ما في أنفسهم نحو الأفضل تغير المجتمع، والعكس.

كما أنه لا بد من الإقرار بأن الفرد مكلف من حيث هو فرد ومكلف من حيث أنه فرد في جماعة، وحاجة الفرد إلى الانضمام إلى الجماعة بمعنى الأمة (الجماعة المطلقة) وإلى الجماعة بمعنى الفئة المحصورة العدد (مطلق جماعة)، وفق اختصاص معين أو منهجية معينة بانتماء فقهي أو عقدي أو أي اختصاص في أي مجال.

كما أثبت الإسلام أحكاماً على الفرد وعلى المجتمع، فخاطب الفرد في جانب التعبد وجانب الأحكام (أهلية الأداء وأهلية الوجوب)، وربطه بالمجتمع في جانب التعبد (الصلوات الخمس في الجماعة والأعياد) ونهى عن الشذوذ عن الجماعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية»، إضافة إلى جملة من الأحكام في الزكاة والتكافل وغير ذلك.

ولا بد أيضاً من الإقرار بالحاجة إلى التوازن في العلاقة بين مسؤولية الفرد من حيث هو ومسؤوليته من حيث هو فرد في جماعة.

إن انتشار أدبيات فكر الجماعة الشمولي وسيطرة هذا الفكر على الثقافة السائدة سلب الفرد فرديته الحميدة وأخل بذلك التوازن المطلوب ومكّن الجماعات المتطرفة المتسترة باسم الدين من أن تتوغل في عقول أفراد المجتمع وخاصة الشباب منها وتوهمه بأن لزوم الجماعة (جماعتهم هم) وتأويلهم للنصوص الواردة في فضل الجماعة (على جماعتهم تلك) بحيث يكون من لازم ذلك الانقياد لها بكل توجهاتها وما يصدر عنها من أوامر ، وأن لزوم الجماعة تلك هو المنقذ مما فيه المجتمع من جاهلية وانحراف.. الى آخره. فيضحون بأنفسهم من أجل الجماعة ، بدون بذل التفكير المطلوب فيما يودون الإقدام عليه، أو فيما يريدون تبنيه من أفكار، ولا شك أن في ذلك تغييباً ظاهراً للوعي بأهمية الفرد ، ووجوده وإحساسه بذاته فحين يتحول الفرد إلى تابع لجماعة من الجماعات أو تحت لواء قيادة من القيادات يرى أنها (ملهمة) يجب التسليم لها دون تفكير، فإن مصيره أن تدفع به تلك الجماعة وتقوده تلك القيادة لتقدمه قرباناً في مذابح السياسة والإرهاب.

وتغييب الوعي من قبل تلك القيادات والجماعات يأتي أيضاً باستلاب المصطلح الشرعي للجماعة وإسقاطه على وضع تلك الجماعات المتطرفة مع أن الواقع أن محل الإسقاط هو تنظيم في المفهوم المعاصر للحركات الإرهابية وهو أبعد ما يكون عن مفهوم الجماعة الشرعي.

وللتصدي لفكر تلك الجماعات فإن جزءاً هاماً من الحل يكمن في التأصيل الشرعي لمفهوم الجماعة والفردية تأصيلاً شرعياً يحافظ على المفهوم الصحيح للجماعة والفرد، تأصيلاً دقيقاً وواضحاً وسهلاً يفوّت على الجماعات المتطرفة عسف النصوص الشرعية والمصطلحات بما يتناسب مع توجهاتهم الفكرية المسيّسة لتجنيد الشباب باسم الدين تحت مظلة الجماعة وكذلك تعزيز مفهوم الفردية الحميدة وحق الفرد في استقلاله الفكري المنضبط بالضابط الشرعي المحدد من علماء الأمة المعتبرين مع المحافظة على مفهوم لزوم الجماعة الشرعي الصحيح ووضع الآليات المناسبة لترسيخ ذلك في عقول أبنائنا وشبابنا بأسلوب سهل يتناسب مع القدرات الذهنية لكافة فئات المجتمع، عندها نطمئن بإذن الله الى أن مشروعنا الحضاري سائر على الطريق الصحيح وعندها أيضاً سينحسر المد الانتحاري بإذن الله ، ويصبح حب الحياة وعمارة الأرض والدعوة إلى الله بالتي هي أحسن هو الدافع إلى الإقدام والتضحية لا حب الموت.

* كاتب سعودي

[email protected]