من المستهدف من تحريك نهر البارد؟

TT

أبلغتنا فضائية الجزيرة بعد ظهر الاثنين الماضي، انها لمست «الصدق» في كلام ممثل «فتح الاسلام» الذي أبلغها أن مجموعته تقاتل من أجل تحرير القدس.. وكاد صواب عباس زكي ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، أن يطير وهو يحاول ابلاغ الفضائية التي تلتقط الحقائق بسرعة البرق، ان طريق القدس لا يمر من طرابلس.

كم منطقة في لبنان مرت عبرها طريق القدس، مرة كانت تمر من جونيه ومرة اختارت جبال صنين، وأطل اليوم شاكر العبسي والناطق باسمه «ابو سالم» مع حوالي 300 مقاتل كي «يصلوا» الى القدس عن طريق طرابلس، على ان تبدأ بسرقة اكثر من مائة الف دولار من مصرف في بلدة اميون/ الكورة.

الاسبوع الماضي كنت أتحدث مع احد العارفين اللبنانيين، فأبلغني ان قلقاً يسود من امكانية تحريك ورقة المخيمات الفلسطينية لإشعال حرب اهلية في لبنان وتوريط حزب الله فيها، بعدما فشلت كل المحاولات السابقة من اغتيالات وتفجيرات ومظاهرات واصطدامات. وان الخوف هو ان تبدأ في مخيمات الشمال وتصل الى مخيمات الجنوب حيث الكثافة السكانية الشيعية، عندها لا يمكن لحزب الله البقاء رابط الجأش اذا ما تعرض شيعة الجنوب للقصف، وبعدها، لا أحد يعرف اين ستنتهي الأمور.

صباح السبت الماضي خرجت صحيفة «تشرين» السورية وفيها افتتاحية تحذير للبنان بسبب ارسال رئيس الحكومة فؤاد السنيورة رسالة الى مجلس الأمن تتعلق بالمحكمة الدولية، وفي اليوم نفسه اجرت صحيفة «السفير» اللبنانية حديثاً مع الكسندر تورشين نائب رئيس مجلس الدوما في روسيا، اعتبر فيه ان رسالة السنيورة الى مجلس الأمن مجازفة كبرى و«في حال تم اقرار هذه المحكمة، فلا استطيع تصور ماذا سيكون بعدها، ساحة كارثية».

وصباح الاحد شهد شمال لبنان اسوأ مواجهة داخلية منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1990 عندما حاولت قوات الأمن اقتحام مبنى لجأ اليه المتورطون بسرقة المصرف. القوات اعتقدت انها تقوم بعملية محدودة ضد مجموعة تابعة لـ«فتح الاسلام»، فإذا بالموقف في مدينة طرابلس كلها يخرج عن السيطرة. وإذ بدا لدى الجانب اللبناني نقص في جمع المعلومات الأمنية، وعدم تنسيق واضح ما بين الجيش وقوات الأمن الداخلي، فيما كان لدى «فتح الاسلام» الاستعداد الكامل للمعركة مع تنسيق مدروس وخطة محكمة لا يمكن لواصلين جدد ان يكونوا على مثل هذه المعرفة الدقيقة بالطرق والأحياء الطرابلسية. فمقاتلو التنظيم تحركوا من داخل مخيم نهر البارد، حيث فجر اثنان منهم نفسيهما في حاجزين للجيش اللبناني، وتحركوا ايضاً من شقق استأجروها في احياء طرابلس (من سهل لهم ذلك). ويقول شهود عيان، انهم كانوا يقاتلون ضمن مجموعات جد صغيرة في شوارع المدينة، وعندما تنتهي ذخيرتهم كانوا ينتقلون الى شارع آخر حيث آخرون بانتظارهم مع الاسلحة وكلهم من طالبي الشهادة، ويضيف هؤلاء، ان الجيش اضطر الى بدء معركته من «القلمون» (تبعد حوالي 20 كلم عن المخيم)، وبعد تدخل مغاوير الجيش واسترجاع مدينة طرابلس، صارت المعركة على اطراف نهر البارد.

المعارك كشفت اولاً وجود فرع لـ«القاعدة» في لبنان، فشاكر العبسي، كما ذكرت الزميلة سوسن الأبطح في الحديث الذي اجرته معه في الاول من آذار (مارس) الماضي، لا يعلن عداء مع القاعدة: «انما كلانا يقول لا اله الا الله». وهو يخبرها بانزعاجه من حصار الجيش اللبناني (...) «ونعتبره استفزازاً، ولن نرد عليه»، كما ينفي ان يكون مرتبطاً بجهات سورية أو أن يكون لتنظيمه أي علاقة بالوضع الداخلي اللبناني!

كل هذا دحضته الأحداث الأخيرة.

والعبسي نفسه يقول في 16 آذار (مارس) الماضي لصحيفة «نيويورك تايمز»، انه يشارك «القاعدة تفكيرها الاصولي، ويدعم اقامة الامة الاسلامية. ويضيف: «اسامة بن لادن يصدر الفتاوى ونحن نطبقها».

وبالرغم من ان شاكر العبسي موضوع على لائحة الارهاب ومطلوب في الاردن بجريمة قتل ديبلوماسي اميركي، وعمل الى جانب ابو مصعب الزرقاوي، فقد استطاع الوصول الى لبنان في شهر تشرين الاول (نوفمبر) الماضي، وبعد اربعة اشهر جمع ميليشيا وتزود بالذخائر والرشاشات ومضادات للطيران ايضاً. وبسبب السياسة اللبنانية الداخلية المتصارعة، والخبرات التي تنقص العاملين في الأجهزة الأمنية، اضافة الى عدم توفر العقيدة الأمنية الوطنية لديها، اذ ركزت هذه الأجهزة كلها على ملاحقة موظفين، أو سرقات صغيرة، أو مناصب، او قضايا لا معنى لها، ولم تعرف اقامة الشبكات المتخصصة بملاحقة خلايا الإرهاب هذه. واستطاع العبسي الذي تعتبره الأجهزة الأمنية الغربية رجلا خطيرا يمكنه ان يجمع مجموعات مقاتلة صغيرة بمهارة عسكرية مشهود لها (ثبت هذا في احتلاله لمدينة طرابلس)، استطاع حتى ان يصدر مجلة لتجنيد الارهابيين، وكان الاعتقاد كما «صدّقت»، «الجزيرة» بأنه يريدهم لتحرير القدس، انما بعد ان «يحتل» المخيمات في لبنان و«سندخلها كما دخل النبي صلى الله عليه وسلم، المدينة باستقبال الانصار له» («الشرق الأوسط» الاول من آذار (مارس) الماضي).

اللواء اشرف ريفي مدير الامن الداخلي، قال لـ«النيويورك تايمز» عندما اشارت بأن العبسي يبني قواته من دون اي تدخل، رغم اعتقال الحكومة اللبنانية اربعة من رجاله بتهمة نسف باصي الركاب في بلدة عين علق المسيحية: «ان الحكومة لا تستطيع دخول المخيمات من دون موافقة الدول العربية». (في ظل اتفاق القاهرة عام 1969، لا يُسمح للجيش اللبناني بدخول المخيمات الفلسطينية).

ملاحظة برسم اللواء ريفي: بلدة الناعمة ليست مصنفة مخيماً للاجئين، فهل يمكن للدولة اللبنانية ان تدّمر الانفاق التي شقتها احدى المنظمات الفلسطينية المقيمة قيادتها في سوريا، داخل البلدة وعلى اطرافها، استدراكاً لما يمكن ان يقع لاحقاً؟

والآن وقد وقعت الواقعة، وبعدما قام مقاتلو «فتح الاسلام»، بعد التوصل الى اول وقف لإطلاق النار بعد ظهر الاثنين الماضي، بخرقه بأن شنوا هجوماً مضاداً ضد قوات الجيش اللبناني، لتعود المعارك وتشتعل من جديد، يشعر الجيش ان عليه ان ينتصر في هذه المعركة، انما كيف يتحقق ذلك؟ هل يستمر في حصار المخيم أو أنه في مرحلة ما سيجد نفسه مضطراً للدخول الى مخيم نهر البارد، وهذه ستكون استراتيجية مكلفة لأنها تعرض المدنيين للموت، ويمكن ان تتحرك بقية المخيمات، خصوصاً ان «الفرع» الآخر لـ«فتح الاسلام»، في عين الحلوة، وهو «عصبة الانصار» بدأ استنفاره في الجنوب.

اذا استمر الجيش في حصار المخيم ولو بكامل دباباته ومدافعه، فكيف سيقضي على 300 مقاتل يتخذون من المدنيين دروعاً بشرية؟ وإذا طال القصف والحصار وتضامنت المخيمات الاخرى مع مخيم نهر البارد، فماذا سيحصل في لبنان؟

قد يكون هناك امل صغير وهو ان «فتح الاسلام» تشكل اقلية ومكروهة من بقية الفلسطينيين، وهي طُردت من مخيم البداوي في الشمال، ثم ان مواجهتها للجيش اللبناني افقدتها خبزها في لبنان. ولن يستطيع العبسي ان يقول مجدداً انه جاء لدعم السّنة في لبنان (والمهم الا تكون المعلومات التي ترددت سابقاً صحيحة من ان جزءا من الدولة اللبنانية ساهم بتمويل هذا التنظيم او من على خطه ، ظناً منه انه يدعم مسلحين سنّة لمواجهة مقاتلي حزب الله الشيعي، وكان النائب اللبناني مصباح الاحدب، مستقل من طرابلس ومن حركة 14 آذار، صرح في 27 شباط (فبراير) الماضي لصحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية: «ان القضية ليست في اقامة ميليشيا، غير ان حزب المستقبل له علاقات مع بعض «العصابات» المسلحة التي كانت تمولها سوريا، وصارت تحتاج لممولين آخرين)، فقد وقف ابناء طرابلس وعكار (اكثرية الجنود الذين سقطوا من عكار) ضد «فتح الاسلام»، كما ان اي طرف لبناني لا يمكنه ان يدعم هجوم فريق غير لبناني على الجيش. والخوف سيأتي من الأطراف التي لا تشعر براحة من الوضع القائم في لبنان، اذ قد تلجأ الى اطراف اخرى لزعزعة الاستقرار في حال فشلت «فتح الاسلام» في مهمتها.

تتهم الحكومة اللبنانية سوريا بأنها وراء ما حدث، وذلك لإغراق لبنان في الفوضى، وإبعاد التركيز عن المحكمة. وتقول سوريا ان العكس هو الصحيح، وان هذه الاحداث وقعت لاتهام سوريا وزيادة الضغط عليها في الأمم المتحدة.

في الواقع، فإن لبنان سيبقى رهينة المفاوضات التي تجريها واشنطن مع دمشق وطهران حول العراق. وحسب مصادر مطلعة، فإن الاستخبارات السورية سمحت اخيراً لمسؤول اصولي يدعى خالد نجار بالدخول الى لبنان لتسهيل وصول متطوعين من مخيم اليرموك في دمشق للقتال الى جانب «فتح الاسلام» وترغب سوريا في ابلاغ الاميركيين بأنها قادرة على السيطرة على الجهاديين، الذين يعملون في الحقيقة تحت تسميات شتى وإن اختلفت شعارات عملياتهم واهدافها.

اما في حال هدأت الاوضاع في لبنان، فمن المحتمل ان تتحول الانظار من المحكمة الى انتخابات الرئاسة، وكل طرف يريد الاتيان بـ«الرئيس» المناسب لمصالحه، وإذا شعرت دمشق بأن طهران لم تحافظ على مصالحها في الاتصالات مع الاميركيين، فإنها ستعرقل عملية انتخاب رئيس في لبنان وتدفع لتشكيل حكومة منافسة للحكومة الحالية في نهاية الصيف. وسيكون الشعبان اللبناني والفلسطيني «وقوداً» لتدفئة تلك التطورات!