إنها فكرة جنونية و«جهنمية».. لكن ما هو البديل؟

TT

عندما كانت حرب «الإخوة الأعداء» في غزة في ذروتها، تهامس فلسطينيون كثيرون، بعضهم في مواقع المسؤولية، بضرورة اللجوء الى «الطلاق» الذي هو أبغض الحلال عند الله، ما دام أن المواجهات بين حركتي فتح وحماس غدت بمثابة ضرسٍ معطوب في فك ملتهب، وما دام أن كل تفاهمات وقف إطلاق النار، السابقة واللاحقة، لم تصمد أمام شهوة السلطة لدى كل منظمة من هاتين المنظمتين التي تحاول كلٌ منهما فرض نفسها على الأخرى وعلى الشعب الفلسطيني، الذي نفد صبره ولم يعد يقدر على الاحتمال.

لقد تردد هذا الكلام كثيراً في رام الله وفي غزة أيضاً، ودعا فلسطينيون في مواقع المسؤولية وخارجها الى ضرورة اللجوء الى الطلاق ليس بين حركة فتح وحركة حماس، اللتين لم يصمد بينهما أي اتفاق، وإنما بين قطاع غزة والضفة الغربية، حيث واقع كل واحدٍ من هذين الجزأين من فلسطين، بحكم التجربة المختلفة منذ عام 1948، يختلف عن واقع الجزء الآخر.

بعد احتلال عام 1948 وقيام دولة إسرائيل أبْعد واقع هذا الاحتلال قطاع غزة عن الضفة الغربية، ولذلك ولأن غزة خضعت للإدارة المصرية بينما أصبحت الضفة الغربية جزءاً من كيان المملكة الأردنية الهاشمية، فقد رافق هذا التباعد الجغرافي تباعد اجتماعي جعل التجربة السياسية هنا تختلف عن التجربة السياسية هناك وجعل التشكيلات الحزبية في «القطاع» أقرب الى التشكيلات الحزبية في مصر، وإن هي لم تكن تابعة لها مباشرة من الناحية التنظيمية، وذلك في حين أن تشكيلات «الضفة» كانت وحتى لفترة طويلة بعد احتلال عام 1967 جزءاً من الحياة السياسية في الأردن فالبعثيون هم نفس البعثيين، وكذلك الشيوعيون والإخوان المسلمون وباقي الأحزاب سواءً الوطنية المحلية أو ذات الصفة القومية والأممية.

وهنا فلعل ما لا يعرفه كثيرون هو أن أهم النقابات الأردنية كنقابة المهندسين والمحامين والأطباء لا تزال عضويتها مشتركة بين «الضفة الشرقية» و «الضفة الغربية» وذلك رغم أن الطلاق على الصعيد الحزبي قد تم تباعاً وتدريجياً منذ عام 1967 ففرع الحزب الشيوعي في «الضفة» أصبح حزب الشعب الفلسطيني وفرع جماعة الإخوان المسلمين «الأردنية» أصبح حركة حماس، وفروع حزبي البعث، العراقي والسوري، رغم اضمحلالهما إلا أنه لم تعد لباقي ما تبقى منها أي صلة بأصولها الشرق أردنية.

لم تخضع الضفة الغربية بعد نكبة عام 1948 لأي تجربة معزولة عن التجربة العامة في الضفة الشرقية، لا اقتصاديا ولا سياسياً ولا اجتماعيا، أما بالنسبة لقطاع غزة فإنه لم يندمج بالدولة المصرية ولم يصبح جزءاً من تجربتها لا السياسية ولا الاقتصادية ولا الاجتماعية، ولذلك فإن واقع العزلة التي عاشها هذا القطاع على مدى نحو ستين عاماً قد جعل أهْله تكويناً مختلفاً عن أشقائهم في «الضفة» وفي الشتات بمزاج مختلف وتصرفات مختلفة.

كان فلسطينيو الضفة الغربية جزءاً من الشعب الأردني وكانت «ضفتهم» جزءاً لا يتجزأ من كيان الدولة الأردنية الواحدة التي أقيمت في بدايات خمسينات القرن الماضي بعد نكبة عام 1948 ولذلك فإنهم بقوا على تواصل مع عمقهم العربي ولم يشعروا بالعزلة التي شعر بها فلسطينيو قطاع غزة والتي وبفعل الازدحام السكاني أيضاً جعلتهم أكثر نزقاً وتطرفاً وأثَّرت على عاداتهم وتقاليدهم مقارنة بأشقائهم في الضفة الغربية.

إن هكذا واقع يحتاج الى المزيد من البحث والتدقيق، ولعل ما يمكن أخذه بعين الاعتبار هو أن قادة حماس في الضفة الغربية الذين كانوا حتى الأمس القريب جزءاً من «الإخوان المسلمين» الأردنيين، قيادة وقاعدة قد أظهروا في كل المواجهات بين حركتهم وحركة فتح اعتدالا ومرونة في حين أن إخوتهم في قطاع غزة قد أظهروا، حتى بما في ذلك الذين يوصفون بالاعتدال والمرونة، عدوانية لافتة للنظر وقسوة غريبة على التقاليد الفلسطينية.

إنها ليست دعوة لـ«الانفصال» ولكن هذا هو الواقع وهو واقع جعل أوساطاً فلسطينية، في مواقع المسؤولية وخارجها، تقول همساً وعلانية تحت ضغط ما جرى في غزة سابقاً ولاحقاً وأخيراً وما قد يجري في مستقبل قريب أو بعيد بأنه لا حل مادام أن كل الحلول غدت مستحيلة بعد فشل كل المحاولات إلا بالفراق وبالطلاق الذي هو أبغض الحلال عند الله، وأنه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لا حلَّ إلا بترك غزة لأهل غزة وترك الضفة الغربية لأهل الضفة الغربية.

لا جدال ولا نقاش في أن مثل هذه الخطوة إن هي تمـَّت وأتُّخذت فإنها ستكون بمثابة انتحار سياسي، وأخلاقي أيضاً، للشعب الفلسطيني وقضيته، ولكن الذين، ليأسهم وإحباطهم، يطرحون مثل هذا الطرح يقولون إن حماس مُسْتقْتلة على السلطة، وأنها غير مستعدة للشراكة وأنها تسعى لإقامة «دوقيِّة» في غزة تكون لها وحدها، وأنها من أجل هذه الغاية مصممة على الذهاب بهذا الشوط حتى النهاية.

ويقول هؤلاء، وبعضهم قياديون في حركة فتح، أن حركة حماس، التي باتت السيطرة عليها لجناح متشدد ومتطرف لا يقبل بالآخرين ولا يطيق رؤيتهم، لم تعد معنية باتفاق مكة المكرمة، وأنها غدت أكثر تصميماً على التخلص من اتفاقيات أوسلو ومن كل نتائجها وتجلياتها، وفي مقدمة ذلك السلطة الوطنية، وأنها بالأصل لا تريد رؤية منظمة التحرير، وتسعى لإنشاء منظمة بديلة جديدة بمواصفات ومقاسات غير مواصفات ومقاسات المنظمة الحالية.

ويؤكد هؤلاء على أن المشكلة بين حركة فتح وحركة حماس ليست مشكلة أمنية، بل انها مشكلة سياسية عنوانها أن هناك خطين متباعدين من غير الممكن أن يلتقيا وأن يكون بينهما قواسم مشتركة ما دام أن كل طرف ليس لديه أي استعداد للتنازل عن خطه والالتقاء مع الطرف الآخر على الحد الأدنى، وما دام أن أحدهما «مستقتل» على السلطة حتى وإن اقتضى الأمر أن تكون على حي الشيخ رضوان في غزة وحدهُ.

ولذلك ولكل هذا، فإن الذين وصل بهم اليأس والإحباط الى الذروة يطرحون فكرة «جنونية»، تقول ان على السلطة أن تلغي وجودها في غزة، وأن تنسحب نهائياً الى الضفة الغربية وتترك حماس وشأنها لتقيم «دُوقيَّتها» الغزاوية بالأسلوب الذي تريده وبالطريقة التي تحقق لها طموحاتها.

إن هؤلاء يقولون انه ما دام أن الحلول غدت كلها مستحيلة وأنه لا أمل بتوقف الاقتتال، فإن على فتح أن تنكفئ الى الضفة الغربية وأن تبادر، بعد إصلاح أوضاعها الداخلية، الى إنجاز تجربة رائدة في هذا الجزء من فلسطين وأن عليها أن تترك حماس لتواجه مأزق غزة وحدها».. التي حتماً ستجد نفسها في النهاية في مواجهة مع الشعب الفلسطيني، الذي لم يعد يحتمل الظروف الاستثنائية ولا الحصار والذي تحت ضغط الأوضاع المعاشية السيئة سيجد نفسه في الشارع للتخلص من هذه الدوقية الحماسية».

إنها فكرة جنونية وتدميرية، لكن الذين وصلت بهم الأمور الى هذا الحد، يتساءلون عن البديل في ظل إصرار حماس على ما في رأسها وفي ظل عدم وجود قوة تستطيع التدخل لحسم الأمور والقضاء على المافيات والعصابات العائلية والعشائرية، والقضاء أيضاً على كل «الميليشيات» التي تكونت خارج الأطر الأمنية الرسمية المنبثقة على السلطة الوطنية، وأيضاً في ظل الخوف من انتقال أوضاع غزة المتردية والبائسة الى الضفة الغربية!