دولة.. أو لا دولة؟

TT

توحي أحداث الشمال اللبناني الدامية بأن سباقا محموما جار اليوم بين استحقاقين مصيريين: قيام المحكمة الدولية أو انهيار لبنان «الاستقلال الثاني».

تسلسل الأحداث، منذ خروج القوات السورية النظامية من لبنان، كان يؤشر الى احتمال بلوغ لبنان «الاستقلال الثاني» امتحانه الجدي ـ امتحان قدرته على أن يصون استقلاله في إطار دولة ذات سيادة ـ في موعد غير بعيد. وأن يقع هذا الموعد عشية بحث مجلس الأمن لمشروع تشكيل المحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة المتورطين في اغتيال رفيق الحريري، يحمل أكثر من دلالة واحدة على جدية السباق.

دولة أو لا دولة... هو السؤال المطروح اليوم بإلحاح على اللبنانيين.

وأهمية السؤال انه يطرح نفسه بعد إجهاض المحاولة السياسية الوحيدة لإعادة صياغة دولة «الاستقلال الثاني» بتفاهم تلقائي على قيامها في جلسات الحوار الوطني يشبه توافق «الآباء المؤسسين» على قيام الولايات المتحدة، وفي حقبة تشرذمت فيها كل مكونات الدولة وشلت كل مؤسساتها الدستورية... باستثناء المؤسسة العسكرية.

وهنا خطورة الوضع القائم حاليا في لبنان، فالمؤسسة الوحيدة المتجانسة فيه، أي المؤسسة العسكرية، لم تعد المؤسسة الضامنة لأمن لبنان فحسب، بل الحجر الأساس في إعادة بناء لبنان.

«الاستقلال الثاني»، والمؤسسة التي برهنت بنجاح، عبر التفاف اللبنانيين حولها، أن أمن لبنان الداخلي أمن اجتماعي وسياسي بالدرجة الأولى، وأنها هي الجهة القادرة على صيانته عبر تمثيلها الواقعي للمجتمع التعددي في لبنان.

من هنا ضرورة التساؤل عن القصد «السياسي» من استهداف ما يسمى بـ«فتح الإسلام» للمؤسسة الموحدة للبنانيين بعد أن أثبت قدرتها على ملء الفراغ الأمني الذي خلفه الانسحاب السوري رغم إمكاناتها المحدودة نسبيا.

بعد أحداث الشمال اللبناني لم يعد تعزيز عدة الجيش وعديده مطلبا أمنيا بقدر ما هو مطلب سياسي واستراتيجي (خصوصا أنه لم يتلقَ حتى الآن سوى جزء ضئيل من المعونات التي وعدت بها عواصم عربية وأجنبية).

وفي هذا السياق أيضا تعود الى الواجهة قضية تجهيز لبنان بالمعدات التقنية المتقدمة، من كاميرات وأجهزة إنذار مبكر، لمراقبة حدوده الشرقية بحيث تتم هذه المراقبة بمنأى عن الإشكالات السياسية التي أثارها اقتراح نشر قوات دولية على طول هذه الحدود. والجميع يعرف أن حدود لبنان الشرقية أصبحت، بعد العدوان الإسرائيلي عليه الصيف الماضي، الحدود الوحيدة «المشاع»، فالحدود الجنوبية تراقبها بفعالية قوات الـ«يونيفيل»، والحدود البحرية تحرسها بدقة البحرية الألمانية، فيما المنفذ الوحيد للسلاح والفلول المسلحة الى الأراضي اللبنانية لا يزال الحدود الشرقية مع سورية.

ضبط حدود لبنان الفالتة أصبح أولى أولويات المرحلة الأمنية اليوم. وإذا كان القرار 1701 قد حوله الى قضية دولية في فقرتيه 14 و15 (اللتين تحدثتا عن ضرورة حماية الحكومة اللبنانية لأمن حدودها منعا لتهريب الأسلحة)، وإذا كان البيان الرئاسي الصادر عن مجلس الأمن في 12 ديسمبر (كانون الأول) الماضي عن الوضع على الحدود السورية ـ اللبنانية، وتقرير الأمين العام للأمم المتحدة في 14 مارس(آذار) الماضي، اعتبراه جزءا لا يتجزأ من تنفيذ القرار1701، فمن نافلة القول أن لبنان الآمن، ولبنان الاستقلال، لن يقوم من دون حدود ممسوكة بدقة من السلطات المركزية في بيروت.

وقد يفيد التذكير بأن ضبط حدود لبنان الشرقية يتعدى، بمغزاه السياسي البعيد الأمد، مفهوم الإجراء الأمني في أي دولة من دول العالم إلى مؤشر أولي لمقدرة لبنان بالذات على تجاوز وضعه المأسوي كدولة «ملجأ» لأي فصيل مسلح هارب من «نظام» موطنه الأصلي وكدولة مضيفة «لجزر أمنية» تؤوي، الى جانب المسلحين المتوسلين لقضية سياسية يكيفون متطلباتها وفق أهوائهم السياسية وأمزجتهم الدينية، أعدادا لا يستهان بها من العملاء الاستخباراتيين والمجرمين العاديين.

أحداث الشمال اللبناني وتفرعاتها الأمنية، إن أكدت على أمر ما، فعلى ارتهان قيام الدولة بوحدة الجيش.