تدوين دولة لم تقم

TT

لبنان دولة لم يسمح لها العرب بأن تقوم، وبلد منعه العرب من أن ينهض. وصحيح انه محاذ لعدو إسرائيلي، لكنه لم يلق من عمقه العربي سوى الاستعلاء والتشكيك والاستباحة. وعندما حلت النكبة الكبرى بالفلسطينيين لم يرف جفن للعرب في انهم حشروا حشرا وفقرا في لبنان، خلافا لأي قانون انساني أو نسبي معمول به في الأرض. ومن أجل إبعاد المشاكل عن ساحاتها، تواطأت الدول العربية على خوض حروبها فوق الساحة اللبنانية. وكانت 1958 أول حرب مصغرة ثم كانت 1975 ومجموعة حروبها. ولدى خروج الفلسطينيين مرة ثانية، من الأردن هذه المرة، دفع بهم الى لبنان، ومعهم أسلحتهم الثقيلة. وراحت حروب العرب تشتعل، من أقصى المغرب الى أقصى المشرق، فوق أرض لبنان الى ان تجمعت في حرب كبرى انتهت الى مهزوم واحد هو الدولة اللبنانية.

واعتاد اللبنانيون مع الوقت أن الجيش اللبناني لا دور له. فهو قوة عسكرية كلما خطر لها أن تتحرك في أي اتجاه، لمعت سيوف العرب وعلت احتجاجاتهم. بل اعتاد اللبنانيون أن لا دور ولا مكان للجيش حتى على الحدود مع إسرائيل. فهو ممنوع بقرار عربي، من الذهاب الى هناك. ورئيس الجمهورية يردد صباح ومساء انه يجب عدم ارسال الجيش الى الجنوب «لكي لا يكون حرس حدود لإسرائيل». وهذه سابقة لا مثيل لها في التاريخ ولا في تاريخ التواريخ: إرسال الجيش الوطني الى الحدود الدولية حراسة وحماية للعدو.

وفي عام 1969 جرد لبنان، بموافقة عربية وابتهاج، من كل معالم السيادة، عندما أرغم على توقيع «اتفاق القاهرة» مع منظمة التحرير. ويعطي الاتفاق المنظمة حقا للسيادة في الجنوب، لكن هذا الحق ما لبث ان تمدد على مساحة البلد برمته. وسوف يعلن الرئيس ياسر عرفات في رام الله، ثم يكرر مرة ثانية، انه حكم لبنان مرتين. وهو كلام في منتهى الدقة، والصدق، مهما أثار من احتجاجات متأخرة ومحاولات نفي أو استنكار.

لم يعامل العرب دولة مستقلة كما عاملوا لبنان. ولم يخاطبوا دولة ذات سيادة مفترضة كما خاطبوا لبنان، ولم يمارسوا الاستعلاء على أحد كما مارسوه على لبنان. وليست «فتح الاسلام» سوى نهاية طبيعية أو حتمية لمسيرة طويلة. زمرة قادمة من كل مكان لإعلان دولتها في لبنان. تريد ان تمول نفسها بالسطو على المصارف وتثبت نفسها بتفجير حافلات الفقراء والاعتداء على البيوت وذبح رجال الجيش ثم رمي رؤوسهم في الشوارع كمرحلة أولى من شكل الدولة الآتية. وعندما اعترض الجيش على ذبح رجاله تطايرت البرقيات دفاعا عن المدنيين. لمرة حاولوا أن تنصفوا ضحايا العسكريين.