السباحة «الجهادية» في مخيم متعاطف

TT

دخل مخيم «نهر البارد» المتاهة اللبنانية. مَنْ نصدِّق؟ السنيورة يقول إنه فوَّض الجيش بإعلان الحرب. الجيش يقول انه ينتظر القرار السياسي لحكومة السنيورة. سلطان أبو العينين قائد عساكر «فتح» مستعد لمشاركة الجيش في استئصال «فتح الإسلام».

كم فرقة يملك عباس زكي؟ عباس «الزكي» كالمحمود عباس. كلاهما لا «يمون» على أحد. يكتفي «الزكي» بتوبيخ السلطان أبو العينين: لا للحل العسكري. حسن حزب الله ضد اقتحام العسكر للمخيم، كي لا يشكل سابقة لاقتحام مخيمه الذي نصبه في أراضي الحريري محاصرا السنيورة في سراي الحكومة.

«فتح الإسلام» مستعدة للانسحاب والذهاب الى العراق! كأن العراق أصبح «مكبَّ نفايات» العصابات وقطاع الطرق وسالبي المصارف والجزارين الذين يَذبحون باسم الدين من الوريد الى الوريد.

كيف يكون الحل إذن؟ الحل على الطريقة اللبنانية: وساطات وشفاعات وتدخلات لتبويس شوارب العسكر مع لحى الجهاد. أهالي الضحايا المذبوحين يطالبون بالانتقام من أهل المخيم الذين يؤوون «الجهاديين». الجيش طيب الخواطر. قصف المخيم. أصاب المدنيين، وأخطأ «الجهاديين».

يصر أهل المخيمات على الأسنان منددين بالقصف العشوائي. تنطلق المبالغات. لا احترام ولا قداسة للرقم عند العرب. صدِّق أو لا تصدِّق. الجيش ينفي. مخيمات الوسط والجنوب رأت في المنام مخيم نهر البارد وقد تكومت فيه الجثث. المشافي التي تستقبل الموتى والجرحى تقول ان هناك قتيلا واحدا فقط وبضعة عشر جريحا.

ندخل في الكلام الجد. من أين انطلق هذا «المارد الجهادي»؟ كيف سيطر على المخيم؟ كيف طرد المنظمات الأخرى من الجنة؟ هل الـ«سي.آي.إيه» اللبنانية كالزوج المخدوع. آخر من يعلم؟ هل علمها عن سلاح «فتح الاسلام» كعلم الـ«سي.آي.إيه» الأميركية؟ لماذا يتبرأ الفلسطينيون من الإمارة الطالبانية في المخيم؟ لماذا لم يبلغوا باكرا وسلفا المخابرات اللبنانية بما يحدث هناك؟

الدولة لا تهادن عصابة. كلما تأخر الحسم ازداد الحل ميوعة. إما أن تحسموا، وإما أن تصالحوا. الوسطاء يقترحون حرباً شكلية لا تخسرها العصابة ولا تكسبها الدولة! سؤال إلى أهل الحل والعقد في المخيمات الفلسطينية في لبنان. لماذا يكون أمن المخيمات في سورية والأردن من مسؤولية الدولة وسلطتها ومخابراتها، ولا يكون كذلك في لبنان؟ أحمد جبريل وكيل سورية في لبنان لا يجرؤ على حمل عصا في مخيم اليرموك المجاور لدمشق، فيما هو مسلح بالصواريخ في لبنان!

أحسب أن المشكلة تكمن أولاً في انعدام الثقة بين أمن المخيم وأمن الدولة. ثانيا، هناك اتفاق القاهرة (1969) الذي يجعل التنظيمات الفلسطينية مسؤولة عن الأمن في المخيمات المحرم على الجيش اللبناني دخولها. أذكِّر الطرفين بأن مجلس النواب اللبناني ألغى عام 1987 هذا الاتفاق المجحف الذي يسلب الدولة حقها في سيادتها على ترابها. اذا كان الجيش لا يرغب في دخول المخيمات، أو غير قادر على اقتحامها، فلماذا لا يقوم تعاون أمني بين الجانبين؟ لماذا لا يتم تبادل للمعلومات عما يجري داخل المخيمات وخارجها، من نشاطات تقوم بها تنظيمات فلسطينية وغير فلسطينية تجد في المخيم ملاذا وحصنا؟

قبل سبع سنوات، أعلن الباحث الفرنسي غي كيبيل وفاة الإسلام «الجهادي». صدَّقه كتاب الصحافة عندنا الذين يقتاتون على موائد المستشرقين والباحثين الغربيين و«تنجيمات» الصحافة الغربية. دبجوا المقالات وظهروا على الشاشات معلنين انطفاء «الأسلمة» الجهادية والتكفيرية.

التحليل السياسي يصل الى نتائج خاطئة ومضللة، إذا بني على العاطفة والمصلحة، وإذا راعى ما يريد أن يسمعه الحاكم والمسؤول. الأحداث لا تساير العواطف. بعد إعلان قبيلة «كيبيل» الإعلامية شهادة الوفاة، فوجئ العالم بخريف نيويورك. بعد فشل حرب بوش على الإرهاب، ها نحن اليوم نشهد مدا جديدا للإسلام «الجهادي» من أفغانستان الى المغرب.

«الإسلام الجهادي» خرج من تورا بورا المغاور والكهوف ليستوطن المدن والعواصم والأرياف. العنف الديني يسبح في بحر اجتماعي متعاطف معه. لماذا يسكن الإسلام «الجهادي» في لبنان مخيمات الشمال والجنوب، بل لماذا يستوطن مدينة كطرابلس أو منطقة كعكار؟

باختصار، هناك في المخيم شعب عربي مسافر منذ أكثر من ستين سنة. هناك شعب مهجَّر ومهاجر. شعب محاصر في «غيتو» اليأس والفقر والإهمال، بلا أمل في المستقبل. لا بد من مصارحة اللبنانيين، ولا سيما الموارنة والمسيحيين، بأن لا استقرار في لبنان، إلا بمنح الفلسطينيين الحقوق المدنية، حق العمل والإقامة والتنقل والتملك والبناء، اذا ما أردنا في لبنان دولة مهابة ذات سيادة، إذا ما أردنا في لبنان قانونا ونظاما، إذا ما أردنا في لبنان مصرفا آمنا على مال مودعيه، من عصابات ولصوص تغزوه وتنهبه باسم الدين وغير الدين.

بذلت حكومة السنيورة ومنظمة التحرير محاولات للافراج عن «الغيتو» الفلسطيني، ولإسقاط «اللائحة السوداء» التي تحرم الفلسطينيين العمل في تسعين مهنة! لكن الحكومة ما لبثت أن انشغلت بمتاعب «النصر الإلهي» الذي حققه حسن حزب الله فوق جثث 1200 إنسان من طائفته وشعبه وأمته.

القوى الأمنية والعسكرية في لبنان يجب أن تدرك ان العنف «الجهادي» قلب أساليب الحرب النظامية والعقيدة القتالية لجيش في مقابل جيش. «التنظيمات الجهادية» خلايا ناشطة أو نائمة في المخيم وطرابلس وعكار. إذا كانت دويلة الإسلام الشيعي ممتنعة على الاقتحام، فلا بد من متابعة ومراقبة نشاط التنظيمات السنية على الأقل. هي كالأشباح تسبح بين المدنيين بأمان في السلم، وتختبئ بينهم في الحرب. قناصة «فتح الإسلام» حاولوا برصاصهم منع المسافرين من الفرار من مخيم إلى مخيم. أرادتهم بأطفالهم ونسائهم رهائن تحتمي بهم من الجيش النظامي.

شكرا للمعونات المتدفقة على الشعب الفلسطيني المسافر، لكن لا تكفي المعونة عندما تنفجر الأزمة. لا يكفي تجنيد شباب عكار في الجيش. لا بد من مشاريع إنمائية واستثمارية في مجاهل عكار والجنوب والبقاع لتشغيل شباب لبنانيين يأكلهم اليأس والفراغ والبطالة، ولا يجدون مخرجا سوى باللجوء الى منظمات متقشفة «هبِّية» تعيش خارج الدهر والعصر، وتقدمهم الى العالم أناسا بدائيين مستعدين للقتل والذبح بوحشية مذهلة، بلا رحمة ورادع من دولة ومجتمع ودين وضمير.

النظام العربي الذي ابتلع الدولة لا يستطيع أن يكسب الحرب ضد الإرهاب بمجرد تكثيف الجرعات الطقوسية في المسجد والإعلام. الدولة «الحانية» تمنح المجتمع بقدر ما تأخذ منه. النظام الذي يخضع مناهج التربية والتعليم لتنويع المعرفة والثقافة، هو الذي لا يخسر أجياله الجديدة لمصلحة قوى التلقين، قوى الغيبية والقدرية والحلول الجاهزة، ولمصلحة منظمات العنف المتقشفة الناشرة لثقافة الموت والانتحار، ثقافة العداء للناس والعالم.

نظام بشار يرتكب خطأ نظام صلاح جديد الذي ناصب لبنان والعرب والعالم العداء، ثم ورط مصر في حرب كارثية. لا يكفي أن ينسحب بشار صاحب الرياستين بعساكره من لبنان أو يغلق بوابات حدوده أمام الارهاب الهارب. يجب ان يدرك أن اللبنانيين غير السوريين. اللبنانيون أكثر اعتزازاً بحريتهم. الدولة المتدخلة في الشؤون والشجون دَجَّنت السوريين، فباتوا يقبلون أن يحكموا ثلاثين سنة، ثم يتسلمهم الابن لينافس بشار بشارا في انتخابات صورية معروفة النتائج سلفا، ثم يسلمهم بعد عمر طويل الى الحفيد.

نظام بشار مدعو لإغلاق ملف تدخله في لبنان. في المقابل، لا بد من مصارحة الاخوة اللبنانيين بأن العلاقة الشعبية بين البلدين الشقيقين هي من القوة والتداخل، بحيث لا يمكن قيام نظام متدخل هنا، ونظام معادٍ ومخاصم هناك.