مع الوسطاء

TT

أما وقد اتضح لكل ذي عينين أن ما يجري في شمال لبنان الآن، هو معركة بين تنظيم إرهابي سني، وبين الجيش اللبناني، فإن المقاربة هنا يجب أن تخرج عن المعادلة النمطية الخاضعة لموازين وسقوف اللعبة السياسية الداخلية في لبنان.

كما سبق الحديث في المناسبة الماضية، فإن الخصوم اللبنانيين، حاول كل طرف منهم إلقاء كرة «فتح الإسلام» الملتهبة في ملعب الآخر، فلحود يتساءل «ببراءة» عمن يحرك هؤلاء، وأن الغرض من تحريكهم الآن، وإشعال المخيم الفلسطيني، هو فرض التوطين، تلك الفكرة التي رفضها بإباء في قمة بيروت، الأمر الذي يعني عمليا اتهام الفريق الآخر بالعمالة لإسرائيل وأمريكا، لأنهم ينفذون أجندة التوطين من حيث شعروا أو لم يشعروا. فريق حزب الله ومن معه لا يكفون عن التذكير بالدور الإسرائيلي، وبعضهم يغمز من قناة تيار المستقبل وسعد الحريري لأنهم تهاونوا مع مجموعة «الضنية» التي واجهت الجيش عام 2000، ثم اعتقل بعضهم، وان فريق المستقبل خفف عن معتقلي الضنية وتسبب بالإفراج عنهم، الشيء الذي لا يتوقف ايميل لحود عن ترديده هذه الأيام، مطالبا بالصرامة في الحبس، وان من يدخل الحبس مدانا يجب أن لا يخرج منه قبل نفاد حكمه، مع أن لحود نفسه متبرم من طول حبس الجنرالات الأربعة! (جميل السيد ورفاقه).

بالنسبة لسوريا، فلا ريب أن لتنظيم «فتح الإسلام»، في بدايته على الأقل، صلة وثيقة بالنظام السوري، سواء من خلال استيعاب التنظيم لفوائض المقاتلين العرب في العراق، والذين ظلوا في سوريا أو علقوا بها، أو من خلال استخدام التنظيم الأصولي ـ هكذا توهموا ـ وتحويله إلى بؤرة فوضى وتخريب يمكن الاستفادة منها لاحقا في اختراق الشمال السني دينيا، خصوصا التيار السلفي، لأن النظام السوري أفلح في اختراق الاخوان المسلمين من خلال جبهة العمل الاسلامي التي شكلها قطب الإخوان من خلال، الشيخ الطرابلسي، فتحي يكن الذي شكل جبهة العمل الإسلامي، ووقف بها مع الفريق السوري في لبنان ضد فريق 14 آذار. صحيح أن بلال شعبان، ابن سعيد شعبان مؤسس حركة التوحيد الشهيرة التي هيمنت لفترة على طرابلس أثناء الحرب الأهلية، هو الآن مع سوريا، وكذلك هاشم منقارة، إلا أن التيار الأعرض من السلفيين بقيادة داعي الاسلام الشهال ليسوا في الطرف السوري، ولديهم عداوات متأصلة معه بسبب سياسات القمع ضدهم أثناء عهد الوصاية السورية.

لكن كل هذا الكلام، بعد انفجار معركة نهر البارد مع «فتح الإسلام»، أصبح من الماضي، وصار لدينا واقع جديد، واقع يقول إن هناك بؤرة كبير للقاعدة في لبنان، القاعدة بالمعنى الفكري والثقافة السياسية والعسكرية، وإن هذه البؤرة تعمل تماما وفق ما يعمل عليه تنظيم القاعدة، من ضرب الأنظمة العربية «المرتدة» أو «الصليبية» كما في لبنان وفق آخر التوصيفات الأصولية، ضرب هذه الأنظمة، وإطلاق حركة فوضى سياسية، تخلق خلخلة للبنى القائمة، تستغلها التنظيمات الأصولية العسكرية من اجل كسب مساحات على الأرض، ومواقع تجنيد، وخروج عن هيمنة الدولة المركزية، فهذه البيئة الفوضوية، التي تتفسخ فيها سلطة الدولة، هي البيئة المناسبة لعمل جماعات «الجهاد».

إذن، يجب الانتباه تماما، فالقاعدة (وفق التحديد السابق) هي من يشتغل الآن في بنان، لندع الحديث السياسي الداخلي لبنان مؤقتا، ونرى الأمر كما هو حاصل.

وعلى ذكر القاعدة، و«ستايل» القاعدة، وماذا تفعل في كل ساحة، وكيف تنطلق تفاعلات متشابهة حولها من العمل السياسي والإعلامي، حتى ولو اختلفت البلدان. أتذكر، مع كثرة الحديث عن الوسطاء في لبنان بين «قاعدة فتح الإسلام» والجيش، حديث الوساطة والوسطاء، الذي مررنا به فترة مع التنظيم في السعودية ورأينا عملهم في الكويت. وسطاء يريدون نقل رسائل وهواجس التنظيم إلى الدولة والعكس.

طبيعة دور الوسيط، تقتضي ألا يكون منحازا لطرف، وأن يكون مقبولا لدى الجانبين، أحيانا تقابل الوساطة بالرفض من قبل الحكومات في البداية بسبب أنها تشعر بتساوي الجانبين، في حين أن هناك دولة في طرف وهناك متمردين أو خارجين عن القانون في الطرف الآخر، ولا مساواة، إلا أن المعتاد هو أنه في الأخير، ومع طول المعركة وتعقدها، يتم الاحتياج للوسطاء، وربما يكون ذلك سرا.

وسطاء الإرهاب بروزا في السنوات الأخيرة في أكثر من ساحة عربية، ففي السعودية تبرع كثيرون من الإسلاميين السعوديين لتقديم وساطة بين القاعدة والحكومة، وصلت إلى حد أن قام بعض مطلوبي القاعدة، مثل علي الفقعسي بتسليم نفسه للشيخ سفر الحوالي الذي سلمه لقوى الأمن.

لكن هذه الوساطات لم تكن بلا عائد، أو بدون غطاء سياسي وفكري لها، فهي ليست وساطة عارية من الثوب السياسي، ونحن نذكر كيف أن وسيطا من شيوخ الإسلاميين السعوديين قال صراحة انه اكتشف أن سبب تطرف الشباب السعودي ولجوئه لخيار القاعدة هو وجود «منكرات» ومخالفات دينية في الدولة منها على سبيل المثال: قرار دمج رئاسة تعليم البنات مع وزارة التربية والتعليم، وان من أسباب لجوء هؤلاء الشباب للإرهاب هو النقد الإعلامي الموجه لفكر الإرهاب، مطالبا، هذا الشيخ، من اجل نجاعة الوساطة، أن يكف هؤلاء النقاد عن الكتابة ضد الفكر الإرهابي، وان تتراجع الدولة عن قرار الدمج، بالإضافة لجملة أخرى من المطالب الأصولية.

تراجعت بعد فترة «موضة» الوساطة ولم يعترف بهؤلاء الوسطاء قادة القاعدة وأفرادها أنفسهم، كما كان يسخر صالح العوفي، احد قادة التنظيم في مجلته «صوت الجهاد» من شيوخ الوساطة.

نفس الشيء، بدرجة أقل، حصل في الكويت مع تنظيم «اسود الجزيرة»، حيث بادر بعض الإسلاميين إلى تقديم خدمات الوساطة بين القاعدة والحكومة، مثل الشيخ طارق الطواري، ولكن بسبب قلة الخلايا الإرهابية وسرعة مواجهتهم، لم يعد هناك من حاجة لمثل هذه الجهود.

الآن في لبنان تبرع البعض بتقديم خدمات الوساطة، مثل صديق سوريا في لبنان، الاخواني فتحي يكن، وإن كان الجيش نفى ذلك، وهو أثبت ثم نفى، ومن أهل الوساطة الشيخ محمد الحاج، عضو رابطة علماء فلسطين في لبنان، والذي أكد أن الوساطة بدأت قبل معركة نهر البارد بفترة، مع بروز ظاهرة «فتح الاسلام»، وان عقدة هذه الوساطة الرئيسة هي ضمان سلامة المقاتلين العرب في صفوف التنظيم من غير الفلسطينيين واللبنانيين (توجد جنسيات أخرى كالسعوديين ومن شمال افريقيا أيضا).

المشكلة في كثير من هذه الوساطات أنها مكلفة، ومشروطة بتحقيق ما عجز السلاح عن تحقيقه، وهنا نصبح أمام معضلة حقيقية: فلا احد يرغب بالحرب، ولا احد يرغب بمقتل شبان صغار من المواطنين ينضمون لمثل هذه التنظيمات، وربما فعلا يتراجعون لو وجدوا الفرصة، ولكن كيف تحفظ هيبة الدولة، ويضمن السلم ولا يفتح الباب لتفشي وباء الميلشيات والتنظيمات، وكيف يضمن دفن الخطر الإرهابي، بمعنى: كيف لا يعطى الإرهابيون انتصارا عجزوا عنه بالسلاح، فحاولوه بالوسطاء؟!

ويصبح الأمر أكثر تعقيدا في مواجهات نهر البارد، فهنا نحن أمام إشكال إضافي، وهو كيفية ضمان سلامة قاطني المخيم من النساء والأطفال والأبرياء، وفي نفس الوقت عدم السماح للإرهابيين باستغلال هذا الهاجس؟!

الوساطات والوسطاء، يوجدون في الأزمات، وربما كانوا مفيدين إذا اقتصر الأمر على مطالب فنية أو ضمان سلامة حياة فقط، وما إلى ذلك، ولكنهم يصبحون أكثر ضررا من حملة السلاح، إذا ما تبنوا مطالب أهل السلاح، وإن بلغة أنعم.

لذا، ففي زحمة الوساطات يجب التمييز بين الوساطات المسيّسة والوساطات الانسانية البحتة، حتى لا نكرر فصول الوساطات المسيسة في صراع القاعدة مع السعودية والكويت. مجرد تذكير.

[email protected]