تساؤلات حول السياسة الخارجية الفرنسية

TT

لا ريب في أن السيد نقولا ساركوزي يعيش الآن أجمل شهر عسل سياسي في حياته. فكل شيء يبتسم له بعد ان انتخب رئيساً لجمهورية فرنسا وهو في الثانية والخمسين من عمره فقط. بالمقارنة فإن شيراك انتخب وهو في الثانية والستين، وميتران في الخامسة والستين، وكل الطبقة السياسية الفرنسية تغازله وتخضع له. وكل وسائل الإعلام في يديه أو تحت قدميه. وقد وصل الأمر مؤخراً برئيس تحرير جريدة «للوموند» الى حد انه حذر من وجود خطر على حرية الصحافة في فرنسا. فالتلفزيون بقنواته الأربع أو الخمس أو الست يصفق لساركوزي، والجرائد تمدحه صباح مساء، والأعداء أصبحوا أصدقاء.. بل حتى بعض كبار السياسيين خانوا معسكرهم اليساري أو الاشتراكي أو الوسطي وانضموا له، وكان في طليعتهم الرجل الأنيق جداً والذي يشبه النجم السينمائي: السيد برنار كوشنير. فلم يستطع ان يقاوم إغراء منصب وزارة الخارجية الذي عرض عليه فانتقل بسرعة البرق من معسكر سيغولين رويال الى معسكر ساركوزي. وحلال على الشاطر! والناس كلهم مع المنتصر. والحق دائماً على المهزوم.

انه لشرف لهوبير فيدرين أنه رفض هذا المنصب الذي عرض عليه قبل كوشنير، أو قل إنه وضع شروطاً للقبول به. نقول ذلك ونحن نعلم أن فيدرين الذي كان وزيراً للخارجية لمدة خمس سنوات في عهد جوسبان يرفض التبعية لأميركا على عكس كوشنير وساركوزي. وعلى الرغم من ان هذا الأخير قال له بأنه ليس أطلسياً، أي بوشياً، الى الحد الذي يصورونه، إلا أن الجميع يعلم أن السياسة الخارجية الفرنسية ستكون متناغمة تماماً مع واشنطن هذه المرة.

وهكذا فلتت حقيبة الخارجية من يد فيدرين وذهبت الى كوشنير الذي يتمتع بخبرة طويلة عريضة أيضا في مجال السياسة الخارجية. وهو صاحب شعار حق التدخل في شؤون الدول الأخرى اذا ما اضطهدت شعوبها أو إحدى فئاتها أو اذا ما داست على مبدأ حقوق الإنسان. وهذا يشبه شعار الحرب الوقائية لبوش. أما فيدرين فيرى في هذا المصطلح الذي اخترعه كوشنير نوعاً من العودة إلى زمن الاستعمار.. وعموماً فإن الرجلين يختلفان على معظم ملفات السياسة الخارجية الفرنسية، سواء أكان الأمر يتعلق بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، أم بالعلاقة مع الولايات المتحدة، أم بقضايا أخرى.

ولكن محرر جريدة «الفيغارو» يعتقد أن حكام فرنسا الجدد أصبحوا في موقع مناسب ويؤهلهم لأن يلعبوا دوراً كبيراً في منطقة الشرق الأوسط. فهم ـ أي ساركوزي وكوشنير أساسا ـ يتعاطون علاقات جيدة مع كلا الطرفين: الإسرائيلي ـ الأميركي من جهة، والعربي الفلسطيني من جهة اخرى. وبما ان سمعة اميركا تشوهت في المنطقة مؤخراً فإن فرنسا تستطيع ان تدخل الساحة بقوة ليس لكي تحل محلها، فلا أحد يحل محل اميركا، وإنما لكي تساعدها على ايجاد مخرج من العراق وحل للصراع العربي ـ الاسرائيلي. فهل سيصبح برنار كوشنير او بالأحرى ساركوزي وزيرا لخارجية اميركا ويحل محل توني بلير؟

على أي حال فإن البيت الأبيض لم يكن في يوم من الأيام راضيا عن فرنسا مثلما هو عليه الآن. ويمكن ان نقول الشيء ذاته عن اسرائيل. بقي العرب. ولكن من يقيم وزنا للعرب بعد اليوم؟ وهل عندهم قوة تمكنهم من قول (لا) لأحد؟ أشك في ذلك كل الشك وأتمنى ان اكون مخطئا.

الأمور محسومة اذن للطرف القوي، وقد مضى عهد الجنرال ديغول عليه رحمة الله..

وأكبر دليل على ان الجنرال ديغول مات هو ان الرئيس المنتخب انحنى في يوم التنصيب امام تمثاله في اسفل شارع الشانزليزيه. وهذا شيء ايجابي يدل على انه لم يمت كليا بعد. ولكن الشيء الذي حز في قلوب الكثيرين هو ان التلفزيون الفرنسي لم يذكر اسم الشخص الطويل الذي كان ينتظره الى جانب التمثال لكي يحييه ويشد على يديه. لقد أرانا التلفزيون صورة هذا الشخص بلمح البصر، أي لثوان معدودات، من دون ان يكلف المذيع نفسه عناء ذكر اسمه، مجرد ذكر.. يحصل ذلك كما لو انه نكرة أو حشرة.. نقول ذلك على الرغم من انه الابن الوحيد الذكر للجنرال ديغول: الأميرال فيليب ديغول. وهو ليس فقط ابن ديغول وإنما عضو مجلس الشيوخ وكان ذا مرتبة عليا في الجيش الفرنسي. ولكن ليس عند المذيع وقت لكي يذكر اسمه وهو يسلم على رئيس الجمهورية المنتخب في ظل تمثال والده العظيم.

عيب وألف عيب.. إعلام مسيطر عليه من قبل جهة واحدة أصبحت تتطاول حتى على ابن ديغول!.. متى كانت فرنسا تفعل ذلك مع ذكرى ديغول أو ذريته وبنيه المقربين؟ لقد انتهى عهد ديغول وطويت صفحته الى الأبد، من هذه الناحية على الأقل. وفي ما يخص الصراع العربي ـ الإسرائيلي لم يعد لديغول من وجود. فالتطابق أصبح الآن كاملا بين السياسة الخارجية الفرنسية والسياسة الخارجية الأميركية والإسرائيلية.

ولكن للحق والتاريخ فإن هذا الشيء كان قد حصل منذ عهد ميتران، بل وحتى في عهد شيراك كان ساري المفعول على الرغم من كل المظاهر الخادعة. فشيراك كان بارعا في سياسة التمويه واللعب على الحبال. ومن هذه الناحية فان ساركوزي شخص محترم أكثر منه لأنه ليس منافقا ولا دجالا. وإنما يقول ما يفعل ويفعل ما يقول. وبالتالي فان وجه فرنسا الخارجي سيكون واضحا على الأقل في عهد نقولا ساركوزي.

بقيت مسألة الحريات الداخلية في فرنسا. الكثيرون كما قلت سابقا قلقون بسبب هيمنة النظام الجديد على كل وسائل الإعلام الفرنسية تقريبا. فقد عين الرئيس احد اقرب المقربين اليه في منصب رفيع في القناة الاولى الخاصة ذات الأهمية الكبرى. وقد اعتبر بعضهم ذلك علامة سلبية على بداية هذا العهد الجديد. فهذا الشخص يمكن أن يتحكم بنشرات الأخبار ويحذف منها كل ما لا يعجب الرئيس ساركوزي. فهل ستصبح فرنسا بلدا من بلدان العالم الثالث؟ يستحيل علينا ان نصدق ذلك.. ولكن هناك مخاوف.. وقد عبر عنها مؤخرا زعيم حزب الوسط: فرانسوا بايرو وقال انه سيحمي الشعب الفرنسي من سطوة النظام أو هيمنته. وهذا ما قاله زعيم الحزب الاشتراكي فرانسوا هولاند. ولكن وحدها سيغولين رويال قادرة على ان تتزعم معسكر المعارضة الجديدة وتقف في وجه نقولا ساركوزي الذي يتقدم الآن كالبلدوزر الكاسح ويكاد يجرف في طريقه كل شيء.