عن غناهم وعن فقرهم

TT

في الكتابة شيء يدعى المجاز. أو الرمز. والمجاز يرتبط بالشعر، أو المشاعر، وليس بالدقة أو الأرقام. الرقم الدقيق، بكل فواصله وأصفاره ونسبياته، عمل من شأن مدققي الحسابات وأمين الصندوق في محطات البنزين. ومن أجل ان يشدد الكاتب على حقيقة كبرى يلجأ الى مجاز كبير. ومن هذا الباب ذكرت في سلسلة «مقهى يشبه الكتب» ان الادباء والشعراء الذين عاشت مقاهي الضفة اليسرى وازدهرت على اسمائهم، لم يكونوا يملكون ثمن فنجان القهوة كرواد. كان همي في ذلك، ان اصف مرحلة ورجالها ومقاهيها وحتى مدينتها. لم يكن الأدباء والشعراء وحدهم فقراء، بل باريس ايضا كانت مدينة مشردة وحزينة ومعوزة.

لم يعجب هذا الكلام أحد القراء الكرام فكتب الى «البريد» مصححا بأن السادة الكتاب لم يكونوا فقراء، والدليل ان جان بول سارتر فاز بجائزة نوبل، وان البير كامو وحده ربما كان فقيرا. يا مولاي: مرحلة المقهى التي كتبت عنها في الاربعينات تسبق فوز سارتر بجائزة نوبل بعقدين على الأقل. ومرحلة العشرينات التي كتبت عنها، كان ارنست همنغواي (باعترافه الخطي المكتوب) يعيش في غرفة على سطح بارد ومعتم يطل على حديقة اللوكسمبور. ولم اكن اكتب عما حدث فيما بعد، عندما اصبحت كتبه وافلامه الأكثر مبيعا، واصبح يقطن في فندق "الريتز" ويحمل الى غرفته من البار.

كتبت عن مرحلة كان فيها معظم مصابيح باريس الأدبية، فرنسيين واجانب، فقراء فقراء فقراء. ومعدمين. وبائسين. وفي تلك المرحلة وضع جورج اورويل كتابه القاتم الحالك الجميل «مشردا في باريس وبلا مأوى» وإمعانا في الشعور بالفقر والعوز واليأس، اشترى كتابا لشاعر من القرن السابع عشر يدعى فرنسوا فيون وجعله «دليله» حول المدينة. وماذا في «دليل» فيون: اطفال لا يأكلون سوى الخبز مع الخردل، وشحاذون ينامون على مداخل الأفران طلبا للدفء، ومشردون. ولكن فيون هو ايضا الذي سمى باريس «المهرجان العظيم». وسوف يسميها همنغواي فيما بعد، على فقره وبؤس ذكرياته وليالي البرد فوق حديقة اللوكسمبور، سوف يسميها «المهرجان المتنقل» فإذا عشت فيها ردحا رافقتك ذكرياتها الى كل مكان.

كنت احاول ان اكتب عن مرحلة رومانسية، تلك هي صورتها في التاريخ الأدبي، ولم اكن اضع كشفا برواتب ومداخيل الرجال الذين كانوا يرتادون «الدو ماغو» وبقية مقاهي «السان جرمان» و«المونبارناس»، حيث كتب جزء كبير من تاريخ فرنسا الفني والأدبي، ناهيك بالجزء المتعلق بالأدب الانكلوسكسوني من ايرلندي وبريطاني واميركي. كان أعلامه جميعا فقراء فوق حزام العبقرية وتحت حزام العوز. واعتذر عن عدم امتلاك التفاصيل.