عادت أيام اللقالق

TT

كنت قد كتبت عن اللقالق، هذه الطيور العجيبة الناصعة البياض الطويلة الأرجل، التي اعتدت على مشاهدتها وهي تحط وتبني أعشاشها فوق منائر مساجد بغداد. وتطقطق بمناقيرها الطويلة. دأبت على ذلك منذ عرف العراق الإسلام وشيدت فيه الجوامع وارتفعت المنائر. بيد أن هذه الطيور العملاقة اختفت في السنوات الأخيرة وتحير القوم في أمر اختفائها. لماذا لم تعد تأتي في الشتاء الى منائر بغداد كسابق عهدها وتربي أفراخها هناك؟ قال البعض انه التغير البيئي في المناخ. قال آخرون إن اللقالق تعيش على فضلات المدينة وما يرميه السكان من فائض الطعام في خارجها. وقد تغيرت نوعية هذه الفضلات في الآونة الأخيرة. والظاهر أن اللقالق لا تحب الوجبات السريعة وهمبرغرات مكدونالد، فعافت مدينة بغداد ورحلت الى حيث لا توجد مطاعم مكدونالد ولا يأكل الناس الوجبات السريعة.

لاحظ آخرون تزامن رحيلها مع نصب مكبرات الصوت على المنائر. لم تستسغ أصواتها وخشيت على صحة فراخها وهي في أعشاشها فرحلت من بغداد ووجدت لنفسها مكانا خاليا من مكبرا ت الصوت على المنائر. ربما ذهبت الى مدن مسيحية آو زرادشتية لا توجد فيها منائر. ربما ذهبت الى إسرائيل. تأمل البعض من أهل بغداد أنها ستعود بعد أن أصبحت القوة الكهربائية شيئا نادرا ولا تنفع لتشغيل مكبرات الصوت على المنائر أو في الواقع تشغيل أي شيء بما فيه المراوح الهوائية.

فيما كان الناس يتساءلون ويخمنون، سمعت مؤخرا أن اللقالق بدأت تدريجيا بالعودة الى العراق. رأوها تضرب بأجنحتها الضخمة الهواء وتجري في شتى الاتجاهات من سماء العراق. يمكنني أن أقول بناء على ذلك أنها المخلوقات الوحيدة التي فكرت في هذه الأيام بالعودة الى هذا البلد المنكوب. ولم أسمع حتى اليوم أن الجنود الأمريكان قد أطلقوا عليها ما يعرف بالنار الصديقة فقتلوا أحدا منها بالخطأ واعتذروا عما فعلوا.

ولكن أين ذهبت هذه اللقالق وبنت أعشاشها؟ هذا ما شغل بالي. أجاب عن سؤالي أحد الزملاء في ندوة المجلس العراقي للثقافة المنعقد في عمان مؤخرا فقال إن اللقالق في العراق وجدت وطنا جديدا لها على أبراج القوة الكهربائية المنتشرة في الأرياف. راحت تبني أعشاشها على قمة هذه الأبراج.

تأملت في الموضوع فتوصلت الى هذا لاعتقاد بأن اللقالق العراقية حيوانات علمانية متطورة تؤمن بالتكنولوجيا الحديثة فتفضل العيش بجانب محصلات التيار الكهربائي ومحولاته على العيش بجانب مكبرات الصوت. وهذا شيء طريف بالنسبة لهذه المرحلة من تاريخ العراق حيث راح القوم يجرون في الاتجاه المعاكس وينبذون أي شيء يدل على التفكير العلمي والتكنولوجيا المعاصرة. تراهم لا يتعلمون حتى من اللقالق أو الضفادع أو أي مخلوقات تستخدم عقلها في الحياة. والسؤال الآن ما إذا كان العيش سيطيب لهذه الطيور العلمانية بين كل هؤلاء الناس ولا تفكر بالهجرة ثانية من البلاد.