يوم أعلنوا طرابلس «إمارة إسلامية»

TT

الخطورة عندما تصبح العادة طبيعة ثانية في ما يتعلق بمصير الاوطان. والمشكلة في لبنان، بسبب هذه الحالة، أن أحداً من المسؤولين فيه لا يصدق احداً، وان معظم اللبنانيين لا يصدقون أياً من السياسيين.

ويكاد لبنان يصبح مثل سيارة من دون فرامل ليس معروفاً أي هاوية تنتظره، وهذا يكشف بوضوح ان احداً من السياسيين او الاحزاب او حتى الميليشيات لا يشعر بأنه «أم الصبي»، بل انه امام قالب من الجبنة يريد ان يقضم منه اكثر من غيره حتى لو مات من التخمة. وبالمناسبة فان اكثر ما اثار اعجاب اللبنانيين في هذه الايام الحالكة، ليس تصريحاً اطلقه مسؤول، بل ما قاله المطرب ملحم بركات في احدى الاذاعات المحلية عندما سئل عن رأيه بالوضع: «اتمنى أن يغيب كل السياسيين والمسؤولين عن وجه الارض وان يلتقوا جميعاً في الجحيم».

إذ على الرغم من كل المشاكل التي ازدادت تعقيداً بسبب مخططات «فتح الاسلام»، (فرع آخر لتنظيم «القاعدة»)، وبدل ان يجد السياسيون فيها «مناسبة» توحدهم من اجل انقاذ لبنان، تبين ان من ابرز اهتماماتهم اتهام بعضهم بعضاً بنقص في الوطنية ـ هذا صار في حكم المؤكد ـ، وصار «دارجاً» في لبنان ان يتخذ «الزعيم» علناً موقفاً متحدياً غير مقبول وطنياً وغير متوقع، ثم يقوم بإرسال وفد من قبله ليشرح لمن يهمه الامر، أن «الزعيم» لم يقصد ما فهمه اللبنانيون خطأ!

وقد ابلغني مرجع مطلع ان كل سياسي او كل طرف يريد ان يسجل نقاطاً ضد الطرف الآخر، في حين ان احداً لم يتخذ قراراً قبل العودة او التشاور مع طرف اقليمي او دولي. وأعطى امثلة على ذلك منها:

عند بدء احداث نهر البارد اتصل قائد الجيش العماد ميشال سليمان برئيس الوزراء فؤاد السنيورة عند الساعة السابعة صباحاً، ولم يستطع السنيورة الرد على الاتصال الا عند الساعة الثانية عشرة ظهراً.

وان السيد حسن نصر الله امين عام «حزب الله» كان يعرف جيداً ان الجيش لن يقتحم مخيم نهر البارد ومع ذلك اصر على القول في خطابه يوم الجمعة الماضي انه يعتبر الهجوم على المخيم خطاً احمر! وذلك من اجل احراج رئيس الجمهورية اميل لحود وقائد الجيش ميشال سليمان والجنرال ميشال عون حليفه الذي دعم الجيش في كل خطوة ينوي اتخاذها، والحقيقة ان هدف نصر الله الاساسي كان إحراج عائلة الحريري.

ويضيف محدثي، ان نصر الله اراد امراً آخر وهو «معاقبة» قائد الجيش الذي رفض اقتراح ترؤس حكومة ثانية عندما يحين موعد الاستحقاق الرئاسي، ثم انه يريد ان يوحي بأن «حزب الله» وحده القادر على «الدفاع عن الوطن ـ حسب مفهومه ـ وليس الجيش وقد ساعده على ذلك العتاد القليل والقديم الذي بحوزة الجيش».

اما من جهة الطرف الآخر فبعد الانتهاء تقريباً من مرحلة «المحكمة الدولية» التي صارت في مجلس الامن، فان ازمة نهر البارد لم توقف «حفلة الالغاء او الشطب» بين المرشحين لمنصب رئاسة الجمهورية، اذ كان وزير العدل شارل رزق اعاد فتح ملف «بنك المدينة»، وهذا الملف يشطب اسمي المرشحين: رياض سلامة حاكم «مصرف لبنان» وبطرس حرب نائب البترون ومحامي البنك، ثم جاءت احداث نهر البارد وساد الاعتقاد بأن يخطئ الجيش فتقع مجزرة بحق الفلسطينيين المدنيين، ويسقط اسم «المرشح» الجنرال ميشال سليمان، فلا يبقى سوى اسماء مرشحين لا ثقل سياسياً لهم.

كلما عصفت الانواء في لبنان تبين ان النظام اللبناني ينظر الى البلد كمجموعة عشائر وطوائف وعائلات، ولا ينظر اليه ككيان ووطن. و«الزعيم» في لبنان ينظر الى الحادث السلبي بمدى خدمة هذا الحادث له، ولو كان كله ضرراً للوطن. لقد كثرت الاتهامات المتبادلة بين الحكومة والمعارضة حول «فتح الاسلام» خصوصاً بعد اكتشاف عشرات الآلاف من الدولارات في حوزة المقاتلين، «لأن سوريا لا تعطي مالاً»، كذلك كون الامن الداخلي لم يبلّغ استخبارات الجيش او قيادته بالخطة التي يُعدها ضد الارهابيين مما ادى الى مقتل 32 جندياً (27 بطريقة الغدر). ويبدو ان هذه الامور كانت مثار نقاشات حامية في جلسة مجلس الوزراء يوم الاثنين الماضي، وبعد ذلك في اجتماع لجنة الدفاع يوم الخميس، ويؤخذ على الحكومة مسألة العفو عن مرتكبي مجزرة الضنية (راح ضحيتها 11 عسكرياً)، حيث تبين ان الذين استفادوا من العفو شاركوا في العمليات الارهابية الاخيرة ضد الجيش.

هناك حالة من الطائفية في كل لبنان، وتبلغ درجة «الحادة جداً» عند السنّة في الشمال. والجو في طرابلس وعكار يتراوح ما بين المحافظ جداً الى متزمت الى متطرف، وهناك انحسار بشكل عام لكل الاطراف الاكثر انفتاحاً وتقبلاً للآخر. وتاريخياً كان هناك نوع من الحركات الاسلامية في الشمال وطرابلس تأخذ احياناً ظاهرة التشدد، وفي الوقت نفسه كانت هناك تيارات منفتحة وأكثر قوة من التيارات المتشددة. وفي السنوات العشر الماضية تم التركيز على دور السنّة في السياسة اللبنانية وحصل انحسار لليبراليين سواء في الاحزاب العقائدية او العروبية التي كانت تابعة بأغلبها للأجهزة السورية، ولم تُشكل حالة استقطاب شعبي، ثم عمد النظام السوري الى قمع كل الحركات المتشددة في الشمال، فقامت علاقة وثيقة بين تلك الحركات وياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية (عندما غادر بيروت اثر الاحتلال الاسرائيلي ذهب الى طرابلس، وبسببه قصفت القوات السورية المدينة)، وهذا سبّب عدائية جديدة لسوريا من هذه الحركات، لكن كل الحركات عرضة للاختراق من قبل الاستخبارات، و«فتح الاسلام» استقطبت تعاطف حركات متشددة اخرى في طرابلس، وكما استُعملت وغيرها من قبل مجموعات لبنانية اعتقدت بأنها تبعدها عن سوريا، فان سوريا هي التي اسست «فتح الاسلام» وسهلت لشاكر العبسي اقامة قاعدة عملياته، واستعملته لإدارة نشاط الحركة. وكما سهلت انتقال مقاتلي «القاعدة» الى العراق، غضت النظر عن عبورهم حدودها الى لبنان، وقد تكون «مهارة» الاستخبارات السورية ترضي الرئيس السوري بشار الاسد كي يمر يوم الاستفتاء على تجديد رئاسته، بحبور و... ديموقراطية وحفلات دبكة، لكن هذه «المهارة» بالذات يجب ان تدفع الحكومة اللبنانية الى العمل بما تضمنه القرار 1701 وهو الطلب من الامم المتحدة نشر قوات دولية على الحدود بين لبنان وسوريا، اقله لمنع انتقال مقاتلي «القاعدة» من مخيم نهر البارد الى سوريا، ولأنه لن يمضي وقت طويل قبل ان تجد دمشق نفسها في مواجهة خطر الاسلاميين القاعديين.

وعودة الى قصة طرابلس، كان على مدخلها تمثال عبد الحميد كرامي، فأقدمت حركة التوحيد الاسلامي (الشيخ حسن شعبان) على إزالته ووضعت مكانه عبارة «الله»، ولا يجرؤ احد الآن على المطالبة بإعادة تمثال عبد الحميد كرامي الى مكانه كما اعيد تمثال رياض الصلح الى مكانه وسط بيروت. وجاء عمر كرامي عام 1992 على رأس الحكومة ولم يطالب برد تمثال ابيه الى طرابلس. ثم لم يشر احد في لبنان الى اقامة امارة اسلامية إلا في طرابلس، فعندما قام الشيخ سعيد شعبان بحركته اعلن طرابلس «امارة اسلامية»، وكان النظام السوري يتعاطى مع «التوحيد» مرة سلباً ومرة ايجاباً. ويبدو ان طرابلس كان ينقصها عمر بكري مؤسس حزب «المهاجرون» في بريطانيا والذي كاد ان يدخل السجن فيها بعد مناداته بأفكار اسامة بن لادن، وإطلاقه على مفجري نيويورك وواشنطن لقب «الكواكب»، والذي يحرّض على قتل الكفار، فإذا بالحكومة اللبنانية تمنحه جواز سفر لبنانياً، ويصبح على رأس مجموعة مقرها طرابلس، وينعي احد افرادها (الجندل) الذي قُتل اخيراً في اصطدام مع قوى الامن.

بين 7 و16 ايار (مايو) الجاري اجرت مؤسسة «الدولية للمعلومات» استطلاعاً شمل مختلف المحافظات اللبنانية حول استعداد اللبناني لاستعمال العنف (السلاح)، فاحتل شمال لبنان الرقم الاول، ويرى جواد عدرا مدير المؤسسة: «ان التفسير بأن اجهزة استخباراتية تقف وراء احداث نهر البارد هو تفسير مبسط، ثم ان هذه الحركات المتشددة لها منفذ واسع على ايديولوجية القاعدة».

ويتساءل عدرا: «لقد انتحر يوم الاثنين الماضي وزير الزراعة في اليابان بسبب اتهامه بارتكاب خطأ مادي. ألا يستحق لبنان ان تُشكل لجنة تحقيق لنعرف ما جرى في طرابلس، او ما جرى في حرب تموز (يوليو) الماضي»؟

يتخبط لبنان في حالات كثيرة منها الانفصال (انفصال الشعب عن المسؤولين السياسيين) والانقسام (المناطق) والآن يعيش الجيش في حالة مراوحة على ابواب نهر البارد ويجب ألا ينهزم بأن تنجح الوساطات بإخراج مجموعة «فتح الاسلام» الى «الحرية»، كي لا ينطفئ آخر امل عند اللبنانيين، فمنذ شهرين اجرت مؤسسة «الدولية للمعلومات» إحصاء تحت عنوان: «تراجع الرموز السياسية وتقدم القوى العسكرية»، اظهر ان الجيش هو العنصر الوحيد الذي يتفق اللبنانيون على التعلق به (نسبة 80%). وسبب ذلك اعتبار اللبنانيين للجيش رمزاً لكيان اسمه لبنان وليس رمزاً لطائفة او عشيرة، ويبدو ان اللبنانيين متعاطفون اليوم اكثر مع الجيش.

المشكلة التي يعاني منها الجيش ان اكثر من 90% من ميزانيته تصرف على الرواتب، لهذا هو بلا عتاد،، لأن العشرة بالمائة المتبقية تُصرف على الصيانة والتشغيل، ويعود «الفضل» في ذلك الى المخطط السوري زمن الوصاية وموافقة القيادات اللبنانية المسؤولة على تلك المعادلة لإبقاء الجيش ضعيفاً وكل ذلك من اجل «ابراز دور المقاومة على حسابه».

ورداً على تساؤل الوزيرة السورية بثينة شعبان في مقالها في «الشرق الاوسط» يوم الاثنين الماضي: «كيف يقرأ المواطن العربي خبر اقامة واشنطن جسراً جوياً لإمداد الجيش اللبناني بالمساعدات»، فان الجواب هو انه يفتح عينيه اكثر على ما خلّفه زمن الوصاية السورية على لبنان من «فتح الاسلام»، و«جند الشام» و«عصبة الانصار» الخ... وكما يقرأ تماماً اخبار إمداد ايران وروسيا سوريا بالصواريخ والأسلحة!