نهر البارد: السر في مأزق المحكمة الدولية

TT

حتى لو لم يقع في مخيم نهر البارد ما وقع وحتى لو لم يتم اختراع «فتح ـ الإسلام» ولم يتم استقدام شاكر العبسي الى لبنان بعد برمجته في «السجون الشقيقة» فإن اللغم الكبير المُؤقَّت، الذي أسمه المخيمات الفلسطينية والذي جرى حشوه بالمتفجرات من أجل مثل هذه الأيام، سينفجر، فاستحقاق المحكمة الدولية غدا بمثابة تحصيل الحاصل، وما هدد وتوعد به المصابون بالرعب والقشعريرة من هذا الاستحقاق بات بالنسبة لهؤلاء هو خشبة الخلاص التي لا خشبة خلاص غيرها.

لم يعد هناك أي خيار غير خيار إشعال نيران الفتنة في بلد كان قدره أن يكون في هذا الموقع الجغرافي وأن يكون بهذه التركيبة الديموغرافية وأن يكون نصيبه من المأساة الفلسطينية اثني عشر مخيماً تنتشر في هيئة جزرٍ صغيرة متباعدة من الحدود اللبنانية ـ السورية في الشمال وحتى صور والناقورة والنبطية في الجنوب.. حيث هناك «دوقية» حزب الله التي أنهت تماسها مع فلسطين المحتلة قوات دولية جاء بها «الانتصار الإلهي» الذي نقل خيام «الجهاد» من خطوط المواجهة مع «العدود الصهيوني» الى محيط سرايا الحكومة اللبنانية في ساحة رياض الصلح في بيروت.

لأن لبنان كان ولا يزال، بحكم عوامل كثيرة، الخاصرة الرقيقة في جبهة المواجهة مع إسرائيل ودول الطوق مع فلسطين المحتلة، فقد كان المقصد الأول لطلائع الثورة الفلسطينية التي انطلقت في عام 1965، ففي بيروت ومن جوار «الجامعة العربية» في ضاحيتها الغربية صدرت مجلة «فلسطيننا» التي كانت أول مطبوعة نطقت باسم الحركة الناشئة الجديدة، حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح»، ثم ومن قبل أهل مخيماتها الذين كانوا يعيشون ظروفاً في غاية البؤس والحرمان جرى استقبال بنادق التحرير وفي «حبس الرَّمل» سُجن زعيم وقائد هذه الظاهرة الوافدة الجديدة ياسر عرفات (أبو عمار) وبعض رفاقه.

كانت حركة «فتح»، التي نشأت في الكويت وأطلقت على جناحها العسكري اسم «العاصفة» في اجتماع عقده «الآباء المؤسسون» على شاطئ «الصلبيخات»، قد اتجهت الى المخيمات الفلسطينية في لبنان، وبخاصة مخيمات بيروت والجنوب قبل إصدار بلاغها العسكري الأول، بضرب عبارة «عيلبون» الى الشمال الشرقي من مدينة الناصرة، من دمشق فأخذت هذه المخيمات، التي عاشت ظروف قهر وحرمان وبؤس لا مثيل لها، تتحول الى قلاع مسلحة ما لبثت أن خرجت عن سيطرة الدولة اللبنانية وفقاً لاتفاق القاهرة الشهير الذي حمل توقيع ياسر عرفات والجنرال إميل البستاني وبإشراف الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر في بدايات شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1969.

لم تسمح سوريا حتى لمنظمة طلائع حرب التحرير الشعبية ـ منظمة الصاعقة ـ التابعة لها والمنبثقة عن حزب البعث الذي لا يزال يحكمها بالعمل عبر خطوط جبهة هضبة الجولان لا قبل احتلالها ولا بعده.. وهكذا فقد تحول الوجود الفلسطيني، وبخاصة بعد أحداث سبتمبر (أيلول) عام 1970 في الأردن، في لبنان في المخيمات وخارجها الى ما يشبه دولة داخل الدولة، وقد بقي هذا الوجود دولة داخل الدولة اللبنانية حتى رحيل (أبو عمار) ومنظمته وقواته أولاً عن بيروت ثم عن باقي مناطق لبنان على أثر الغزو الإسرائيلي في عام 1982.

لقد كان (أبو يعرف أن سوريا هي الأكثر استفادة من اقتلاعه واقتلاع منظمته وقواته من لبنان وحقيقة أنه عندما اتخذ ذلك القرار المتهور بالعودة الى مخيمي «نهر البارد» و«البـدَّاوي» في الشمال اللبناني في عام 1983 فإن هدفه كان التصدي للنفوذ السوري الذي أخذ يعود الى المخيمات الفلسطينية وإحباط سعي دمشق، التي لم تستطع استيعابه بعد إخراجه من بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982، لإنشاء منظمة تحرير جديدة تابعة لها على أنقاض منظمة التحرير السابقة «الحالية».

كانت سوريا قد سيطرت على القرار الفلسطيني بصورة كلية بعد عودتها العسكرية الى لبنان في يونيو (حزيران) عام 1976 وكانت قد كبَّلت يدي ياسر عرفات وحولت منظمة التحرير، كما لبنان، الى مجرد جُرمٍ صغير يدور في فلكها وفلك سياساتها وكانت قد ألْزَمَتْهُ بمواقفها المتعلقة بالعملية السلمية التي بدأت تشق طريقها بقوة بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973 والرافضة لمسيرة الرئيس المصري الراحل أنور السادات ومفاوضات كامب ديفيد كما كانت قد ألزمته بمقاطعة القمة العربية التي انعقدت في عمان في عام 1980 التي قاطعتها هي، أي سوريا، ولم يحضرها الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد والتي قاطعها بالطبع لبنان أيضاً.

في هذا المخيم نفسه أي «نهر البارد» حاصرت سوريا ياسر عرفات، العائد من تونس ليدافع عن القرار الوطني الفلسطيني المستقل وليقطع الطريق على سعي دمشق لإنشاء منظمة تحرير جديدة وعلى سعيها لاستبداله بآخر حتى من داخل حركة «فتح»، بمغاوير من جيشها جرى تزويدهم بـ« هويات» الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة ـ التي تلعب الدور نفسه وفي المكان نفسه الآن و«هويات» جيش التحـرير الفلسطيني و«هويات» ما سُمي «حركة فتح ـ الانتفاضة» التي يقال ان «فتح ـ الإسلام» هي مجرد اسم آخر لها.

لم تستطع دمشق لا تدجين ياسر عرفات، كما دجَّنت بعض من تستضيفهم الآن في فنادقها وأحيائها الجميلة على الرحب والسعة، ولا التخلص منه رغم أنها شنت على مخيمات بيروت في عام 1985 حرباً تدميرية وفرضت عليها حصاراً قاسياً ساهم فيه بفعالية أصحاب «النصر الإلهي» هؤلاء أنفسهم ومعهم الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة ـ بقيادة أحمد جبريل والمنشقون الذين أطلق عليهم اسم «حركة فتح ـ الانتفاضة» بقيادة أبو خالد العملة وأبو موسى مراغة.

لم تستطع دمشق السيطرة لا على ياسر عرفات ولا على منظمة التحرير ولكنها استطاعت السيطرة على كل المخيمات الفلسطينية في لبنان باستثناء بعض المخيمات الجنوبية كمخيم عين الحلوة في صيدا والرشيدية في صور بحكم قربها من الحدود مع إسرائيل، ولعل ما اتضح الآن، بعد كل هذا الذي جرى في مخيم نهر البارد، سبب حرص سوريا الشديد على احتفاظ هذه المخيمات بأسلحتها وتعزيزها بأسلحة جديدة وسبب تطابق موقف حزب الله في هذا المجال مع المواقف السورية.

ما كان على الدولة اللبنانية، لو أنها تملك إرادتها وقرارها أن تقبل باستمرار اتفاق القاهرة الآنف الذكر، الذي أُبرم في عام 1969، بعد رحيل منظمة التحرير عن لبنان وبيروت في عام 1982 وبعد اتفاق الطائف الذي تضمن بنداً بهذا الخصوص، لكن ولأن إرادة الدولة اللبنانية كانت في يد «الأمن الشقيق المستعار» فإنها قبلت بالأمر الواقع وبقيت تتظاهر بقناعتها بضرورة احتفاظ المخيمات بأسلحتها من أجل الدفاع عن نفسها، هذا مع ان كل لبناني كان يعرف أن الهدف هو تحويل هذه المخيمات الى لغم موقوت يجري تفجيره في اللحظة المناسبة، وها هي اللحظة المناسبة قد أزِفت.

لماذا في لبنان تسليح المخيمات حلالٌ وموقف وطني والتزام قومي بينما في سوريا يعتبر هذا الأمر خروجا على السيادة الوطنية وإفْكا من عمل الشيطان ويستدعي اللجوء الى المدفعية الثقيلة كما حصل بالنسبة لمخيم اليرموك في بدايات ستينات القرن الماضي خلال محاولة جاسم علوان الانقلابية التي اعتمدت على بعض ضباط جيش التحرير الفلسطيني التابع للقوات المسلحة السورية..؟!

إن تحرير فلسطين لا يمر لا بـ«جونية» ولا بـ«نهر البارد»، وإن الإبقاء على المخيمات الفلسطينية في لبنان خارج السيادة اللبنانية ليس في مصلحة أبناء هذه المخيمات الذين وُظفوا ووُظّفت مخيماتهم لأغراض ليست لها علاقة بقضية فلسطين.. والذين نزفوا بما فيه الكفاية واستخدموا وقوداً في حروب الآخرين وفي إطار حسابات ومعادلات إقليمية معروفة، وكل ذلك على حساب استقرارهم وعلى حساب قضيتهم الوطنية.

ما هي الفائدة التي تعود على أبناء المخيمات الفلسطينية في شمال لبنان ووسطه وجنوبه من الأسلحة التي تخزنها منظمة أحمد جبريل في منطقة الناعمة قرب الدامور.. ولماذا يدافع حسن نصر الله عن احتفاظ هذه المخيمات بأسلحتها بينما شارك عام 1985 في حصارها حتى اضطر أهلها الى أكل لحم القطط والفئران..؟!

إنها لعبة قذرة بالفعل وعلى أهل هذه المخيمات أن يرفضوا تحويل مخيماتهم الى ميادين معارك وقتال من أجل تصفية حسابات إقليمية.. وأنه لا يجوز أن تبقى منظمة التحرير تتعامل مع هذه المسألة الخطرة بطريقة «المُواربة»، وعليها أن تعلن وفاة اتفاق القاهرة غير مأسوف على شيخوخته وأن تحسم قضية أنه لا ضرورة للسلاح في أيدي الفلسطينيين في لبنان وقضية أن بقاء المخيمات الفلسطينية خارج إطار السيادة اللبنانية يشكل ضرراً عليها أكثر من ضرره على اللبنانيين وسيادتهم وكرامتهم.