نهر الإرهاب البارد

TT

مهزلة أن يتلهى السياسيون اللبنانيون، بجمع القرائن، ليثبت كل طرف أن خصومه هم من فبركوا وغذّوا تنظيم «فتح الإسلام»، فيما البلد كله في ورطة، والمواطنون قابعون في بيوتهم كالفئران، يجفلون من صوت القطط إن هي ماءت، وينتظرون سيارة مفخخة أو انتحارياً تحت كل شرفة. فبصرف النظر عمّن دسّ هذا التنظيم، وهل هو سوري أو قاعدي أم صهيوني، فإن احداً لا يستطيع أن ينكر بأنه نما وانتشى في ظل الخلافات الأخوية اللبنانية، وحمته، دون ان تدري، كل الفصائل الفلسطينية القابعة في المخيمات التي باتت أشبه بدكاكين مقاومة، كل منها له مشروعه الخاص في التحرير. وبما أن أحداً لا يريد ان يتفاهم مع أحد، أو يتنازل طرف (معتدل) لطرف (معتدل) آخر، فإن هذه الجماعات ستترعرع، وتجد لها مؤيدين، سئموا الكلام وقرروا ان ينتقلوا إلى حيز «الفعل».

وليس لك عزيزي (المعتدل) أن تعترض على نوعية الفعل في هذه الحالة، فإن هؤلاء المزنرين بالنار والبارود لن يسألوك عن رأيك. ولعل ابلغ كلمة قيلت منذ انفجار هذه الأزمة المروعة إلى اليوم، جاءت على لسان احد مسؤولي حماس، وهو يتساءل: لماذا يحاصر الجيش اللبناني مخيم نهر البارد فيما جماعة فتح الإسلام، خرج نصفهم إلى طرابلس، ولم يبق إلا النصف. وبمرور الوقت يتبين، ان الجماعة وصلوا إلى الأشرفية. وكان شاكر العبسي، مؤسس الحركة قد اقر سابقاً، بخلاياه النائمة في كل المخيمات، والتي بمقدوره إيقاظها متى شاء. ونحن لا نملك إلا ان نصدقه، ما دامت مسببات وجوده وانتعاشه تتفاقم، وعوده يشتد، رغم أن الجيش اللبناني يطبق الحصار على قاعدته المعلنة، فيما تؤكد أخبار التفاوض انه يرفع السقف ويرفض تسوية تحفظ ماء وجه الجيش. فالمطالب الرسمية اللبنانية هبطت من «اجتثاث» و«استئصال» التنظيم (وهو ما أعلن الاثنين الماضي) وانخفضت تدريجياً إلى طلب السترة والسلامة أو ما يقارب. وكان بمقدورك مع بداية الأزمة ان ترى محللاً سياسياً لبنانياً، يطل من الشاشة، ليقول لك متعنتراً: «الشعب اللبناني ينتظر الحسم العسكري الذي لا حل غيره، وإلا سيشعر بخيبة أمل من جيشه الوطني».

وكان على الأخ المحلل، ومثله بعض المسؤولين السياسيين الكبار، أن يراقبوا قليلاً كيف احتاجت مطاردة انتحاري واحد بحزام ناسف، في مدينة طرابلس، محشوراً في بناية لا يستطيع الخروج منها، أكثر من خمس ساعات استخدمت خلالها اسلحة من كل صنف، إلى ان قرر ان يفجر نفسه في النهاية. وعيب الجيش اللبناني انه غير دموي، ويلتزم ضوابط صارمة لحماية المدنيين وأملاكهم، وليست الهمجية من شيمه. ومع ذلك لنفترض جدلاً أنه قرر اقتحام مخيم نهر البارد ضارباً عرض الحائط بكل الخسائر الفادحة التي يمكن ان تقع، ونجح في ما لا يستطيع مارينز اميركا أن ينجزوه، وقتل عناصر «فتح الإسلام»، وفر منهم خمسون فقط، هل يتصور السيد المحلل أي خراب بمقدور هؤلاء الخمسين أن يلحقوه بالبلد وأهله.

وبكلام آخر، فإن الجميع عالقون اليوم في عنق زجاجة. جماعة «فتح الإسلام» محاصرون، خلفهم البحر وأمامهم الجيش اللبناني، يفضلون الموت على الاستسلام أو تسليم بعض عناصرهم، ويجدون انفسهم مرغمين على القتال حتى آخر نفس. الجيش اللبناني لا يمكنه معنوياً وأخلاقياً ان يتراجع عن طلب تسليم قتلة جنوده، وفي الوقت نفسه، يعرف ان دخول وحول المخيم، يعني حرب ازقة وتضحية بمدنيين وعسكريين، وربما مجازر لا يستطيع احتمالها. أما الحكومة المدعومة بمهمتها من كل دول الدنيا، فباتت تعي بعد الوعد باجتثاث الظاهرة من جذورها، ان 400 ألف فلسطيني على ارض لبنان، سيشتعلون غضبا وهم يرون المخيم يدمر على رؤوس أصحابه، ولا أحد يضمن جنوح الغضب في هذه الحالة. ومما تعلمه الحكومة ايضا أن مهمتها تتعدى نهر البارد وأن المسألة بدأت هناك لكنها لن تنتهي في المكان نفسه. حسابات كثيرة، معقدة ومتداخلة، تتعدى قدرة جيش نظامي على اقتحام منطقة إلى قدرة دولة على التحكم بألف حكاية وحكاية قد تختلط جميعها لتخلق حالة تفجيرية كبيرة. أما إبقاء الحال على ما هو عليه لفترة تطول، فهذا أيضا مما لا تحمد عقباه، ومن يزر النازحين الفلسطينيين عن نهر البارد هذه الأيام، يلمس غضباً عارماً وسخطاً هائلاً من حالة انتظار لا يبدو لها من نهاية.

الوقت يضيق، والجميع في امتحان صعب. الجيش بحاجة إلى خطة جهنمية لإلحاق ضربة بعناصر «فتح الإسلام» القابعين في عمق المخيم، ليحفظ هيبته، من دون ان يلحق اضرارا بالمخيم وأهله. والحكومة أمام اختبار قوتها الاستخباراتية لتطارد الفارين على مساحة لبنان كله. هذا بعد ان تعلم الجميع بأن الأفلام الأميركية، ليس لبنان المكان الصالح لتطبيقها، خاصة ان نهاياتها ليست سعيدة ولا ناجحة على ما يبدو، وخلاص لبنان في أن يصغي لخصوصيته. وإن كان من نقطة ضعف قاتلة يمكنها ان توقع بهؤلاء المتطرفين في لبنان، فهي سماحته الاجتماعية، وتركيبته المنفتحة. وأول هزيمة مني بها «فتح الإسلام» في يومه الأول، أن قاعدته اللبنانية السلفية التي كان على تواصل معها لم تهب لنجدة بضعة من مقاتليه في شوارع طرابلس، والذين تحركوا بأسلحتهم بقيت أعدادهم ضئيلة جداً. ويصح القول إن في لبنان متشددين وسلفيين جهاديين ايضاً، ربما يلتقون مع العبسي في الغيرة على العراق وفلسطين وحقوق أهل السنة، إلا ان الانتقال من التنظير إلى الانتحار، أمر آخر، يحتاج تربة أخصب من تلك التي توفرها البيئة اللبنانية. ومن طريف الأمور ان تجد من يوصفون بالتطرف في لبنان، يتحدثون عن تطرف العبسي وجماعته وغلوهم رغم تعاطفهم معهم، وان يلتقي شيوخ المخيمات على جنون شاكر العبسي الذي لم يفهم، في رأيهم، الخصوصية اللبنانية، التي قد تحتضنه قبل إطلاق النار، لكنها لا تستطيع تبنيه بنفس القدر حين يصبح مفخخاً.

الجميع في عنق الزجاجة، واستنساخ الحلول المصرية او الأردنية للقضاء على الظاهرة، لن يكون مجدياً، وعلى اللبنانيين للخروج من المأزق أن يكونوا خلاّقين، ويبتكروا حلولاً تتلاءم وخصوصيتهم، لا سيما ان تنظيم «فتح الإسلام» نفسه، بدأ يفهم أنه في أرض لا تشبه محيطها، فخرج على الناس بناطق رسمي، وعقد المؤتمرات الصحافية، ويحتفظ بخطوط هاتفية للتواصل مع الإعلاميين، ويحاول ان يعايش السرية مع الانفتاح، والتزمت مع الديمقراطية، وعلى هذا الوتر الحساس بمقدور السياسيين اللبنانيين اللعب، مجتمعين لا متفرقين.