معادلة الرعب السياسي

TT

مقياس النفوذ في لبنان، في ظل وضعه الانتقالي وديمقراطيته الهشة، لم يعد «شعبية» الزعماء أو الاحزاب بل قدرتها على الحاق الاذى بالغير... وباللبنانيين ككل، استطرادا.

القدرة على الاضرار بالآخرين... مقياس معتمد اليوم للنفوذ السياسي في لبنان، ومؤشر واقعي لثقل أي جهة أو أي تنظيم سياسي كان على الساحة اللبنانية.

ربما كانت هذه الذهنية أحد إفرازات سنوات الحرب الاهلية الطويلة وما خلفته من نزعة ـ مكبوتة أحيانا ومعلنة أحيانا أخرى ـ لحسم الخلافات السياسية «بالقوة». ولكن الواضح ان اللبنانيين بلغوا اليوم وضعا يمكن وصفه بمعادلة «الرعب السياسي» بين فريقين يتربص كل منهما بالآخر ولا يتوانى أي منهما عن الاستقواء بالخارج علّ الخارج يرجح كفته في معادلة الرعب.

في واقعها الميداني، تبدو معادلة الرعب السائدة في لبنان وكأنها الامتداد السياسي لمسلسل الاغتيالات الاجرامي. وهي مستمرة بحكم كونها مناخا مواتيا لجني مكاسب فئوية تتجاوز احيانا الثقل التمثيلي لهذه الجهة او تلك.

وقد تكون الخشية من انهيار هذه المعادلة الدقيقة، والمكلفة للبنان واللبنانيين جميعا، أحد الدوافع الخفية لمسارعة تنظيم حزبي مدجج بالسلاح إلى معارضة حسم المؤسسة العسكرية الشرعية، بالقوة، لظاهرة «فتح الاسلام» الارهابية، فالحسم العسكري من شأنه الاخلال بمعادلة «الرعب السياسي» لصالح المؤسسة العسكرية الشرعية وبالتالي لصالح مشروع قيام الدولة القوية القادرة.

... وهنا بيت القصيد.

الدولة القوية القادرة في لبنان مرفوضة من كل من يتصور نفسه بديلا محتملا لها. وفي هذه الخانة بالذات تصب سياسة حزب الله في تمديد أزمة الحكم وشل المؤسسات الدستورية الى أطول مدة ممكنة وأخيرا لا آخرا اعتباره اجتثاث الجيش اللبناني للارهابيين في مخيم نهر البارد «خطاً أحمر».

بقدر ما يطول عهد ميزان الرعب السياسي وبقدر ما تبقى الدولة مشلولة يظل المناخ مواتيا لحزب الله لكي يتصدى لخصومه بحجج سياسية «مدعومة»، ولو ضمنا، بخلفيات غير سياسية.

وإذا كان هذا المنطق وراء المناوشات الدورية التي تعرض لها الجنود الدوليون من بعض «الصبية» في مناطق نفوذ حزب الله في الجنوب ـ كالرشق بالحجارة وسد بعض الطرق في وجه دورياتها المؤللة ـ يجوز الاستنتاج بأن الحزب يستثمر مناخ الرعب السياسي ليوجه رسالة سياسية لا تخلو من التحذير إلى الدول الغربية المشاركة في قوة «اليونيفيل»، خصوصا أن ثلاثا منها (فرنسا وإيطاليا وألمانيا) من أبرز مؤيدي إقرار المحكمة الدولية في مجلس الامن.

حتى الامس القريب كانت محاولات افتعال إشكالات بين القوات الدولية و«الاهالي» في جنوب لبنان تواجه بتحرك سريع من الجيش اللبناني الذي نجح دائما في احتوائها ومعالجتها بالتي هي أحسن..

ولكن بعد أن فتحت في وجه الجيش فجأة، وفي توقيت مريب، جبهة محاربة الارهاب في الشمال اللبناني للتحول إلى أولى أولوياته الامنية، قد يفسر تفجر أي «اشكالات» جديدة بين اليونيفيل و«أهالي» الجنوب بأنه محاولة مقصودة لسحب معادلة الرعب السياسي على علاقة حزب الله مع الدول المشاركة في قوة «اليونيفيل».

لن نذهب الى حد التساؤل عما إذا كانت جبهة مخيم نهر البارد في الشمال عملية إلهاء متعمد للجيش عن دوره الاساسي في الجنوب، أي دور بسط السيادة على كامل أراضيه. الا ان ذلك لا يعفي حزب الله من أن يثبت في هذه المرحلة الدقيقة في تاريخ لبنان أن الخط الاحمر الآخر الذي وضعه حيال الاعتداء على الجيش اللبناني ينسحب أيضا على علاقة «أهالي» الجنوب بالقوات الدولية، على اعتبار أن أمن الجنوب أصبح جزءا لا يتجزأ من أمن الجيش اللبناني في وقت يخوض فيه معركة كرامة الدولة وسيادتها في الشمال.

وغني عن القول ان هذا الموقف هو فرصة حزب الله السانحة لان يثبت أنه حزب لبناني وليس مجرد «لوبي» محلي لمصالح جهة خارجية.