إنها فكرة جميلة جدا

TT

في عيني صور متتابعة لأناس راضين ضاحكين.. أحدهم يجلس على الأرض في أحد الشوارع بالقاهرة يمزق إطارات السيارات يصنع منها نعالا للأحذية القديمة.. من أين له هذا الرضى؟ هذه القناعة؟ هذه السعادة؟ انه يجلس على الارض.. على قطعة من الحجر.. ظهره للحائط.. رجلاه ممدودتان. أهو يغترف من ذلك الكنز الذي يسمونه القناعة.. القناعة كنز لا يفنى.. أهو الصبر على ما عنده.. ليس عنده شيء.. أهو الإيمان؟ الإيمان بماذا؟ أهي طبيعة الوجه ان تمتلئ بالنور والسعادة؟

وسيدة أخرى تحمل على رأسها «مشنة» بها الفول السوداني.. ظللت أرقبها مسافة طويلة. إن أحدا لا يشتري منها.

نفس الوجه.. نفس الابتسامة.. والينبوع الخالد.. ينفجر من وجهها وعينيها وصوتها ومشيتها. أهو الصبر هو مفتاح الفرج؟ أهي طبيعتها المصرية؟ ولكن هل هناك شيء اسمه «طبيعة» مصرية وطبيعة إنجليزية او فرنسية.. أم انها طبيعة واحدة لكل الناس؟

ورجل ثالث ورابع وخامس. هذا الابتسام أو هذا الضحك أو هذه القناعة ما معناها؟ هل معناها أن هؤلاء الناس نفوسهم لم تصدأ.. وأن جذوة حياتهم لم تخمد؟ ولماذا؟ هل هي روح المقاومة لقسوة الحياة؟ أهو الايمان الذي يمدهم بأسلحة وعتاد لا ينفد.. أهو الانتظار السعيد ليوم الفرج؟ هل هذا العالم المحدود هو الذي يجعل بائع الفجل مثلا يضع ساقاً على ساق ويقول: أنا سلطان زماني؟!

أما حدود هذه السلطنة فهي جانب من جانب من شارع صغير أو حارة مسدودة!

أهو نفس العالم الذي صوره الأديب الآيسلندي «لا يلنس» الفائز بجائزة نوبل في قصة «سالكا فالكا».. فهو في هذه القصة يقدم لنا أناساً يعيشون في جزيرة تغطيها الثلوج وتكتسحها العواصف أو الثلوج العاصفة.. يعيشون في عزلة جليدية عن العالم كله.. ويتحكم فيهم صاحب الزورق أو بائع السمك.. إنهم يعيشون في عالم محدود جداً وهم راضون وقانعون وبعضهم يحسد البعض.. وفيهم متدينون.. لأنهم لا يدرون ماذا يصنعون أمام الجليد والعواصف والبحر والخوف والفقر.. لا شيء إلا الصلاة.. وفيهم ملحدون لأنهم لا يخافون أحداً أو شيئاً.

انه العالم المحدود الذي يملأ قلوب الناس بالسعادة. وعندما ذهب «جليفر» إلى بلاد الأقزام قابله الملك والوزراء وسألوه هل رأيت أروع من بلادنا؟ هل سمعت عن أناس أقوى وأعظم منا؟ هل شاهدت هندسة وعمارة وفناً أجمل مما في بلادنا؟

وضحك الملك وتمايل الوزراء.. فقد سكت جليفر.. وسكوته ما معناه؟ ليس معناه أن الملك قد أقنعه بشيء.. والملك سعيد وحاشيته والشعب سعيد في هذه الدولة المحدودة التي يقطعها جليفر طولا وعرضا في بضع دقائق.. إنه العالم المحدود المريح.. انها القناعة التي تشبه ذباب «تسي تسي» الذي إذا لدغ إنسانا جعله ينام وينام إلى الأبد..

انني لا أحسد أحداً من هؤلاء على الرصيد الذي لا ينفد من الابتسام والقناعة.. ولكن أتمنى القليل مما لديهم دون أن أجلس وظهري إلى الحائط أو أبيع الفكرة الجميلة جداً!