حبيبي الباسبورت

TT

للغرب منجزاته وحضارته، ولكن له ايضا سلبياته. لا شيء يزعجني فيه كاستخفاف موظفيهم بالوثائق والشهادات. خذوا مثلا تعاملهم مع جواز السفر. قضيت شهورا من الجهد والسعي والصرف حتى حصلت على جواز سفري البريطاني. ما زلت أتذكر اليوم الأول حين استعملته في السفر لفرنسا. أخرجته من جيبي وأنا في تلك الحالة من الشوق والاعتزاز لأعرضه على ضابط السفر البريطاني في دوفر. ما كان منه إلا ان تثاءب في وجهي وأشار الي بطرف إصبعه أن أمر ولا أزعجه بباسبورتي. شعرت بخيبة كبيرة تعرفها أي امرأة صالحة تطبخ كبه ممتازة تقدمها لزوجها، فلا ينبس بكلمة اعجاب واحدة. هكذا كان شعوري. ولكنها كانت خيبة تقل بكثير عما تلقيته من الضابط الفرنسي في كاليه. لم يسمح هذا الرجل لي حتى ان اخرج له باسبورتي وأريه له. ما أن رأى طرف الجواز حتى أومأ لي برأسه أن أمر ولا أعكر عليه صفو فنجان القهوة. منتهى الاستخفاف بما أحمله من وثيقة.

قارنوا ذلك ما يجري عندنا. ذهبت الى بلد عربي وقدمت نفس الباسبورت للمأمور. ما أن تسلمه حتى تنحنح وأخذ نفسا عميقا. بدأ بإعطاء الجواز ما يستحقه من الإجلال والاهتمام. راح يقلبه صفحة صفحة ويقرأ كل كلمة فيه بشغف واهتمام. وكان استمتاعه بقراءته باديا عليه من قيامه طوال الوقت بفتل شواربه. ما ان رأى محل الولادة بغداد حتى نادى على رئيسه ليشاركه بالمتعة. سارع لعلبة السكائر وأعطى واحدة لزميله وأشعل الأخرى لنفسه. وتحت سحابة الدخان راحا يتحاوران ويتبادلان الاشارات والنظرات. فكم مرة في العمر نرى فيها اسم بغداد، بلد هارون الرشيد، مكتوبا على باسبورت بريطاني؟ حاجة تفرفش وترد الروح. ساعتان وهما يتباركان بصفحات الجواز ويدققان كل كلمة فيه.

كانت تجربة تفرح القلب جعلتني أشعر بعظمة هذه الوثيقة التي احملها وتهالكت عليها. فالمواطن العربي لا قيمة له مطلقا بحد ذاته. تنحصر قيمته في الوثائق التي يحملها. بل يمكن القول انه مجرد صندوق لإيداع الوثائق. انه مثل أي دولاب في مديرية الأمن. الدولاب لا قيمة له مطلقا، ولكنه يضم ملفات ثمينة وخطيرة. ما ان يضع المواطن جوازا جيدا كامل الفيزات في جيبه حتى ترتفع قيمته بصورة مدهشة. وضابط السفر الجيد يعرف ذلك ويعطيه حق قدره. حتى المواطنات الماجدات ما ان يسمعن بجواز سفره يتهافتن عليه، شريطة ان يكون معززا بفيزات مهمة. مضى ذلك الزمن حين كان الأب يسأل عن شهادات الخطيب وأملاكه وأخلاقه. السؤال اليوم أعنده جواز سفر صحيح غير مزور، وكم يحمل من فيزات نادرة لبلدان لا تريد العرب؟

وهذا كله نتيجة التقدم في مستوى المواطن كإنسان من ورق. فبينما ينظر الأجانب للمواطن العربي كإنسان خايب عاجز، يتحول فجأة الى عملاق جبار، حالما يضع في جيبه ورقة مزينة بشتى الاختام والطوابع. مهما بلغ الغربيون من علم ومعرفة فإنهم لن يبلغوا ما وصلنا اليه من احترام وتبجيل للكلمة المكتوبة على قصاصة تحمل شعار الدولة والحزب وتمغة مديرية السفر والاقامة.