العروبة في السياسة السعودية

TT

التهم مشروع سلام العرب مع إسرائيل مشروع السلام بين العرب. ركز العرب والعالم على قمة المبادرة العربية لمصالحة إسرائيل. وتَمَّ إغفال وإهمال الشق الثاني والأهم من قمة الرياض: المبادرة السعودية لإحياء هوية الانتماء العربي، والسعي نحو «وحدة حقيقية».

إذا كان العالم مهتما بالإلحاح على العرب لمنح اليهود مشروعية إقامة دولة مستوطنة لهم في المنطقة العربية، ولا يريد البحث والحديث عن هوية عربية، لأن وحدة العرب تمنحهم قوة الوجود الفاعل كدولة كبرى تتحكم بأهم مفاصل البحار والمحيطات، وتملك الطاقة النفطية التي يعتمد عليها العالم في صناعته وحركته...

إذا كان هذا هو غرض العالم الغربي بالذات، فلا أدري لماذا يُجاري العرب، دولاً وساسة وإعلاماً، الغرب في إغفال وإهمال المشروع الوحدوي! هل المصائب الكارثية التي تنزل بالعرب تلهيهم عن معالجة تمزقهم وتشكيل مستقبلهم؟ أم أن العرب باتوا أيضا غافلين عن وحدة انتمائهم، ومهتمين باستنفار غرائزهم البدائية الأضيق من طائفية ومذهبية؟

كرست قمة الرياض، في تصوري وأمنيتي، مرحلة جديدة في السياسة السعودية. جاءت الدعوة لإحياء الهوية العربية بمثابة «المشروع / الحلم» للعاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز، وكانت قمة الرياض إعلاناً عن الانشغال السعودي المتدخل علنا في صميم الشؤون العربية وأشدها تعقيدا، فيما كان هذا الانشغال مقتصراً إلى الآن على الدور الديبلوماسي الملتزم بأدب الوساطة الناصحة والحوار السري الصامت إعلاميا.

أقرأ في إعلان قمة الرياض رؤية سعودية جديدة. السعودية ترى اليوم في الركون إلى الهوية العربية ملاذا لتجنيب العرب خطرين كبيرين، ذاتي وخارجي: تحرير العرب من مرض «الغلو والتطرف والعنصرية».

وتجنيبهم مآسي وكوارث مشاريع تغيير الأوضاع في المنطقة.

من خلال إعلان قمة الرياض، تبدو السعودية قلقة من الهجمة الخارجية «لتمييع الهوية العربية» بالمشاريع الغربية والإسرائيلية والإيرانية، سواء بالترويج لـ«شرق أوسط جديد» أو «للمتوسطية» أو لمشروع نجاد وخامنه ئي لحشد العرب تحت المظلة الإيرانية النووية، في الواجهة الميلودرامية الانفعالية مع أميركا والغرب.

المؤلم أن الإعلام العربي يجاري هذه المشاريع في اطلاق تسميات جغرافية على أجزاء المنطقة العربية كـ«شمال افريقيا» بدلا من المغرب العربي.

التركيز على التربية والتعليم لاستعادة الهوية العربية ليس بجديد، انما الجديد هو اعتراف قمة الرياض رسميا بضرورة تطوير المناهج التربوية والتعليمية، من خلال اعطائها «أهمية قصوى»، لتعميق الانتماء العربي المشترك لدى الاجيال الجديدة، ولحمايتها من مناهج التزمت الديني المتطرف التي يروِّجها الفكر التقليدي و«الجهادي».

تبقى لي ملاحظات على مشروع العروبة في إعلان الرياض، أولها ضرورة وضع «آلية» عمل عربي ثقافي مشترك، من خلال لجان رسمية لوضع منهج تربوي جديد يطبق في المرحلتين التعليميتين الإعدادية والثانوية في دول الوطن العربي بكامله، مع تجنيب هذه اللجان أي مضمون سياسي، نأيا بالمشروع التربوي عن تمزقات السياسة ومزايداتها.

إذا كان إعلان القمة قد أصرّ على العناية بتدريس اللغة العربية، فهو لم يُشر إلى ضرورة تدريس التاريخ المعاصر والتراثي، من خلال رؤية قومية ايجابية بقدر ما هي ناقدة، لتعريف الأجيال بالسلبيات في هذا التاريخ. عَرْضُ التاريخ التراثي بتمجيد أشخاصه وأحداثه يلغي قدرة العقل العربي والفكر المعاصر على بناء شخصية عربية واعية ومُتَّزنة وعارفة بسلبية وايجابية العقل التاريخي العربي والإسلامي.

غير أن «وحدوية» قمة الرياض تنطوي على تناقض مع شعار «التضامن» الذي كان نهج العمل السياسي الفاشل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولعل السعودية ترى في الانتقال من شعار «التضامن» إلى شعار «العمل الوحدوي» ما يمنح عروبة السياسة السعودية مصداقية وثقة أكبر لدى الرأي العام العربي.

في بناء العمل السياسي والديبلوماسي السعودي على قاعدة الوحدة العربية، فالقيادة السعودية تمنح مشروعها الجديد بعدا دينيا، وهو أمر مشروع مع استعادة الدين مكانته الروحية في المجتمع العربي، ثم في كون الدولة السعودية حاضنة وحامية للمقدسات الاسلامية على أرضها.

لا شك أيضا ان السعودية واعية لأخطاء السياسات القومية التي تبنتها الأحزاب والأنظمة القومية. لقد انتهى المشروع البعثي الى نظام طائفي عصبي في سورية، والى نظام عائلي عشيري متخلف في العراق، واختنق النظام الناصري بالقيد الذي وضعه في عنق الديمقراطية، وبرفضه تعريب المدرسة والجامعة بفتحهما أمام أساتذة الفكر القومي للتدريس وللمحاضرة فيهما.

اعتقد ان الوقت قد حان لإقامة العلاقة العربية مع العالم الاسلامي على أساس انساني الى جانب العلاقة الدينية المشتركة. وأطرح هنا سؤالا على أهل وأصحاب مشروع الخلافة الاسلامية: ماذا لو عاد الغرب إلى بناء سياسته الخارجية على أساس ديني متعصب؟ ماذا سيصيب العالمين العربي والإسلامي من كوارث صليبية جديدة غازية، باعتبار أنهما أكثر ضعفا عسكريا وتقنيا وحضاريا؟

بناء السياسة الخارجية على أساس ديني ينتظر «النصر الإلهي» جرّ الكوارث على العرب والمسلمين منذ القرون الوسطى، وآخرها نصر حسن حزب الله «الإلهي» الذي أدى إلى «تمويت» 1200 شيعي، من أجل «تربيح» إيران جنديين إسرائيليين مخطوفين.

كذلك فبناء السياسة الداخلية على أساس الشعار الإخواني «الدين هو الحل» هو استخفاف بمعايير التنمية والاقتصاد المعاصرين، وتحميل الدين النتائج السلبية للحل الغيبي الجاهز. فشل التجربة الإيرانية دليل وبرهان قاطع، ما زال سبعون مليون إيراني في انتظار «الجنة» التي وعدهم الخميني بها على الأرض.

من الرؤية الجديدة للعروبة، تنطلق الدبلوماسية السعودية إلى المشاركة العلنية في البحث عن حلول عملية للقضايا التي تمزق العرب. في تشويه التحرك السعودي تجري محاولات مغرضة لوضع مصر في مواجهة السعودية. مصر لها دورها القومي باعتبارها الدولة العربية الأكبر، ولإعادة مبارك مصر إلى حضن العروبة بعد الغيبوبة الساداتية. والسعودية لها حضورها القومي، باعتبارها الدولة الأقوى اقتصاديا وإنمائيا، والمالكة لأهم ثروات الطبيعة، والمتحكمة بأهم البحار والمفاصل الملاحية في العالم.

أخيرا لي عودة إلى «عروبة» السياسة السعودية منذ العاهل المؤسس عبد العزيز آل سعود. باختصار أقول انه اهتم أساسا بإنشاء دولة وحدوية قوية في شبه الجزيرة العربية. هيكل في تجاهله انتقال مركز الثقل السياسي والمادي العربي إلى الخليج، يتهم السعودية بمحاباة بريطانيا تاريخيا. الواقع أن دولة عبد العزيز وحدت الحجاز ونجد والأحساء، وأنهت المدينة / الدولة في الغرب، الدولة / الاقليم التي أقامها آل الرشيد في الشمال تحت الهيمنة التركية.

المشروع السياسي السعودي وحدوي الهوية. كادت دولة عبد العزيز تتوحد مع إمارات ومشيخات الخليج لولا معارضة بريطانيا، مع الإذن من «وثائقية» هيكل.

بعد استقرار السعودية وتثبيت حدودها، بدأت السعودية بقيادة العاهل الراحل عبد العزيز مرحلة المشاركة الفاعلة في القضايا العربية، ولا سيما في الصراعات في المشرق العربي. هذا الدور العريض بحاجة إلى حديث آخر في الثلاثاء المقبل، مشيراً إلى حاجة السعودية الماسّة إلى مراكز بحوث لوضع دراسات متوسعة عن الممارسة السعودية السياسية منذ تأسيس الدولة السعودية الأولى قبل نحو ثلاثة قرون.