في انتظار تحرير ساحة رياض الصلح وشارع علي عبد اللطيف

TT

عملاً بظاهرة الجوامع المشتركة الكثيرة بين البلدين المنتهي اسم كل منهما بالألف والنون (لبنان والسودان)، فإن احدث جامع مشترك بينهما هو ساحة في الاول وشارع في الثاني.

الساحة هي «ساحة رياض الصلح» في قلب الوسط التجاري التي اجتاحها، في ظل حرية الممارسة الديمقراطية الحليفان حتى الخريف المقبل حزب الله و«تيار ميشال عون» واجازا لجموع لا عمل لها التخييم في هذه الساحة كوسيلة حديثة الاستنباط للضغط على الحكومة اللبنانية التي غادرها وزراء الحزب ومعهم وزراء حركة «امل» التي يتزعمها رئيس البرلمان نبيه بري، الذي لا يشارك حليفه السيد حسن نصر الله الرأي في الجنرال الذي يعتبر التحالف مع «لبنان الشيعي» هو الطريق الى رئاسة الجمهورية.

ولكي لا يكون التخييم حصراً على حزب الله و«تيار الجنرال عون» وحركة «امل» بِفعل الاضطرار، أعطيت للحلفاء الصغار الشأن مساحات للتخييم الذي كان مفتوحاً، مع ان الأصول في دنيا الاعتراض ان يكون لفترة قصيرة وألا يُعطِّل مصالح الناس ولا يُضفي بالتالي على الوجه اللبناني بعض الندوب. وهكذا تحوَّل الـ«هايد بارك» اللبناني الى ظاهرة غير مستحبة عكس الـ«هايد بارك» في العاصمة البريطانية، الذي بات أحد ابرز معالمها السياحية والحضارية.

وعلى رغم الاحتجاجات من جانب الفعاليات الاقتصادية والتجارية والفندقية والمصرفية، يضاف اليها الغضب الصامت في نفوس عائلة الزعيم الراحل رياض الصلح كثيراً ما لاحظناه خلال اللقاء مع ولية عهده السياسي علياء التي رحلت الى دنيا الآخرة، وفي النفس غصة على ما آلت اليه حال الساحة التي تحمل اسم والدها.. على رغم ذلك كان اهل قرار التخييم أذناً من طين وأذناً من عجين، وكان بعض الفاعلين في النظام السوري، وإن باتوا خارج دائرة العمل الرسمي امثال العماد مصطفى طلاس وزير الدفاع السابق، لا يتدخلون لإخلاء الساحة مع انهم كانوا وراء اعادة الاعتبار الى التمثال، بعدما حاولت جماعة منتسبة سياسياً لهم تحطيمه بغرض حذف رياض الصلح من ذاكرة الوطن.

التخييم متواصل. ولا رغبة او لا قدرة لأي جهة رسمية على انهائه. وأما تداعيات هذا النوع من الاعتراض فإنها كثيرة مادياً ومفجعة نفسياً. وكان في استطاعة الجيش الذي يجاهد في «جبهة نهر البارد» والموعود بـ«جبهات أخرى» يدفع فيها المزيد من التضحيات ان يعلن حالة طوارئ لمدة اسبوع كتلك المعلَنة في مصر وغيرها. وفي ظل هذه الحال يطلب لدواعٍ امنية اخلاء الساحة وعودة المخيمين الى حيث اتوا، وفتح الطرقات امام المارة والسيارات ومعاودة الحركة التجارية والسياحية النشيطة الى ما كانت عليه. لكنه لم يفعل لحسابات تدخل، على ما يجوز الافتراض، في سياق التوحد الوطني في المؤسسة العسكرية التي اصابتها عام 1975 ـ 1976 نكسة الانقسام.

في قلب بيروت عاصمة لبنان حدث ذلك وما زال. أما في قلب الخرطوم عاصمة السودان، فالذي حدث انه بعد سقوط العراق وإسقاط النظام الصدَّامي وما رافق ذلك من تهديدات للمصالح الأميركية، فإن هاجس الأمن سيطر على ادارة الرئيس بوش الابن، الذي كان مزهواً باحتلال العراق من دون ان يأخذ في الاعتبار ان مرارة المأزق ستبدد طعم حلاوة وضع اليد على بلاد الرافدين. وفي سياق الهواجس الأمنية كان التسوير الاسمنتي لمبنى السفارة الاميركية الواقع في شارع علي عبد اللطيف الزعيم السوداني الذي قاد «ثورة الـ24» التي يتباهى بها السودانيون والذي قضى فيها برصاص الجنود البريطانيين الذين استطاعوا إخماد الثورة بعد قتل قائد «مجموعة اللواء الأبيض» في هذه الثورة علي عبد اللطيف.

في البداية كان هنالك تفهُّم للظروف الأمنية الأميركية بدليل ان والي الخرطوم عبد الحليم اسماعيل المتعافي تجاوب مع قرار السفارة بوضع حواجز اسمنتية في الاتجاهات الأربعة من الشارع.

من جانبها فإن السفارة، وعلى نحو ما يتردد، وثَّقت الأمر في صيغة اتفاق تدفع بموجبه للولاية مبلغاً لا بأس به من الدولارات.

هذا التسوير جعل المبنى والعاملين في السفارة في مأمن، لكنه عطَّل حركة المرور فضلاً عن حساسية سيادية نشأت نتيجة أن أمن السفارة يفتش كل سيارة في نطاق الزنار الأمني. كما ان اصحاب المحلات التجارية والمطاعم والمكاتب العقارية، وجدوا ان الاقبال على مصالحهم لم يعد كما مِنْ قبل، وتضاءلت احجام المداخيل. وحتى الذين يسكنون في شقق في عمارات هناك بدأوا ينزعجون، تماماً كما الحال الناشئة في قلب العاصمة بيروت عن التخييم. ولهذا الغرض أعد هؤلاء من خلال مَن يمثلهم وعن طريق محامين مذكرات الى وزارة الداخلية والسفارة يوضحون فيها حجم الأضرار والازعاجات مفترضين ان الحال يمكن ان تكون مثل أميركا، أي بما معناه يتقدم المواطن بشكوى حول ضرر يسببه له الآخر وكثيراً ما يحكم القاضي للمشتكي، بتعويضات تفوق التصور أو التوقع.

عندما لم تتجاوب الوزارة ولا السفارة مع الشكاوى، حدثت تظاهرة تزامنت مع تصعيد في الازمة السياسية الناشئة عن التعاطي مع موضوع دارفور. وبعدما اصدر الرئيس بوش الابن يوم الثلاثاء 29 مايو الماضي، قرارا بحظر التعامل مع ثلاثين شركة سودانية حكومية، وتجميد ارصدة عدد من المسؤولين وقائد حركة «العدل والمساواة» بذريعة دورهم في احداث دارفور، فإن الرئيس عمر البشير لم يكتفِ بالتصريح في اليوم التالي بأن القرار الأميركي سيُحدث المزيد من المآسي وانه «محاولة لتغطية الجرائم الاميركية في كلٍ مِنْ العراق وايران»، وإنما كان هنالك ايعاز من طرف ما أو أكثر في القصر الجمهوري وفي ولاية الخرطوم لإصدار قرار بفتح شارع علي عبد اللطيف احتجاجاً على العقوبات «البوشية».

تنفس السودانيون الصعداء وشعروا وهم يستمعون الى الاذاعة، ويشاهدون التلفزيون ويقرأون الصحف بأن الرئيس البشير «انتقم» لكل منهم. ثم كانت الصدفة ان قرار فتح الشارع لم يأخذ طريقة الى التنفيذ.

وهكذا تبقى «ساحة رياض الصلح» في قلب العاصمة اللبنانية بيروت في قبضة جموع من »حزب الله» و»حركة امل» و«تيار الجنرال عون» وبعض صغار الاحزاب والتنظيمات الموالية مثل الثلاثة الرئيسيين للنظام السوري. ويبقى شارع علي عبد اللطيف مقفلاً بفعل التسوير الاسمنتي بدواعي الأمن للسفارة على نحو ما اشرنا. وفي الحالتين تكون أميركا هي محور ما حدث. في بيروت يحدث التخييم احتجاجاً على حكومة فؤاد السنيورة التي تدعمها اميركا ومعها المجتمع الدولي والعربي. وفي الخرطوم يستمر إقفال الشارع بطلب من السلطات الأميركية.

وتبقى الاشارة الى أنني قبل أن أغادر الأسبوع الماضي بيروت الى الخرطوم، تمنيت ان اسمع النبأ الذي يفيد بأن الأمين العام لحزب الله، طلب من جموع التخييم تحرير الساحة العزيزة على قلب كل لبناني يذكر بالخير رئيس حكومة الاستقلال رياض الصلح، الذي قضى شهيداً. وأعود الى بيروت من الخرطوم، متمنياً سماع النبأ الذي يفيد انه قد تم تحرير شارع علي عبد اللطيف، الذي قضى هو الآخر شهيداً. ولم يخطر في بال أي منهما أن الأمور ستسوء في البلدين التوأمين إلى هذا الحد.. أو فلنقل الى هذا المستوى من الجحود في حق اسم مَنْ دفع حياته لتبقى راية العنفوان العروبي خفاقة.