العراق.. لغز الحوار مع المقاومة

TT

تحولت قضية الحوار مع المقاومة في العراق، إلى لغز يحير الكثير من الدول والجهات والأطراف، التي يعنيها الشأن العراقي وتهتم به وتراقبه، خاصة بعد ان ازداد الحديث عن هذا الحوار او الاتصالات، وبينما تحدثت أطراف الحكومة العراقية بثقة وتفاؤل عن هذا الحوار، تعامل المسؤولون الامريكيون بحذر شديد، في حين التزمت الصمت غالبية فصائل المقاومة في العراق، التي يزيد عددها عن الثلاثين فصيلا وكتيبة وتشكيلا، ما عدا عدة فصائل أعلنت عبر بيانات لها، تكذيبها لتلك الأخبار والمعلومات.

إن الإعلان عن اتصالات وحوار مع الفصائل المسلحة، يعود إلى عهد حكومة اياد علاوي، عندما خرج وزير الكهرباء في حكومة ايهم السامرائي، معلنا عن ذلك الحوار، وأكد على عقد مؤتمر صحافي مع ممثلين من الفصائل المسلحة، لكن لم يتحقق ذلك، وتلاشى الحديث عن موضوع خطير اثار حينها الكثير من النقاشات وترقبه الكثيرون بحماس وحذر شديدين، وعاد الحديث بقوة عن هذا الامر، خلال شهر نوفمبر2005، وجاء هذه المرة على مستوى اعلى، اذ صدرت بيانات حكومية رسمية، تقول، إن المسلحين اجروا اتصالات مع جلال الطالباني، وتزامن هذا الاعلان، مع انعقاد مؤتمر(الوفاق) في القاهرة (21 ـ 23/11/2005)، ورغم كثرة التسريبات والتصريحات حول هذا الموضوع، الا أن معلومات أو بيانات من اطراف المقاومة، لم تؤكد ذلك، وعندما ازداد الاهتمام بموضوع (المصالحة) بعد تسلم نوري المالكي رئاسة الوزراء، عاد الحديث عن الحوار والاتصالات مع الفصائل المسلحة، لكن التحول الأهم في ذلك، ما أعلنه ضابط بريطاني كبير عن حوار مع المسلحين، ثم جاء التأكيد على لسان الشخص الثاني في القيادة العسكرية الأمريكية في العراق، بتاريخ (31 ـ 5 ـ 2007) عندما قال ان الحوار يجري مع بعض الفصائل المسلحة، وأخطر تحول في هذا الاعلان، التأكيد على ان الحوار يتضمن اجراءات لوقف اطلاق النار، وهذا متغير كبير، وسبق ان جرى نوع من الحوار، عبر اطراف بعيدة وثانوية، تم تكليفها من قبل بعض الفصائل المسلحة، قبل نشوب حرب الفلوجة الثانية في نوفمبر2004، وتم طرح مسألة وقف اطلاق النار من قبل الجانبين، وبينما طالب الطرف الذي ينقل وجهات نظر المقاومة في العراق، بإعلان الانسحاب من العراق وفق جدول زمني محدد وواضح، نقل الشخص الوسيط عن الأمريكيين، وهو من المقربين من غازي الياور، الذي كان رئيسا مؤقتا في حينها، عن مدى علاقة هذه المجموعة مع المجاميع الأخرى وتأثيرها عليها، فجاءه الرد واضحا وصريحا، معلنين أن ما يثبت ذلك، قدرتهم على اعلان كامل وشامل للهجمات ضد القوات الامريكية، خلال24 ساعة، وفي مختلف انحاء العراق، الا أن الأمريكيين، ساروا في الخط الذي اختاروه حينها، وهو الاستخدام المفرط للقوة ضد الفلوجة وأي مدينة اخرى، تعلن مقاومتها لقواتهم.

لكن بعد ثلاثين شهرا من ذلك الحوار، الذي حصل عبر وسطاء ثانويين، يعود الحديث عن امكانية وقف اطلاق النار، ويأتي هذه المرة الاعلان الرسمي عن ذلك من الطرف الأمريكي، في حين سارعت بعض الفصائل الى تكذيبها لأي نوع من الحوار او الاتصال مع القوات الأمريكية، وجاء ذلك عبر بيانات صدرت عن (جبهة الجهاد والإصلاح التي تضم الجيش الاسلامي، وأنصار السنة وجيش المجاهدين، وانضم مؤخرا اليهم جيش الفاتحين) وكتائب ثورة العشرين. كما أعلن أكثر من مرة المتحدث باسم حزب البعث عن ذات الموقف، وقال ان أي نوع من الحوار أو الاتصال مع القوات الأمريكية لم يحصل.

أما موقف الفصائل الأخرى، فإنه ينسجم مع الموقف المعلن لتلك الفصائل، وأعلنت تكذيبها لتلك الاخبار، التي تحدثت عن حوار واتصالات، ويتضح ذلك من ادبيات جميع الفصائل، التي تتفق على الثوابت التالية:

أولا: عدم الممانعة من الدخول في تفاوض مع قوات الاحتلال الأمريكي، وفق الشروط الوطنية، التي تبدأ بإعلان ملزم بالانسحاب التام والكامل لجميع قوات الاحتلال من العراق، وعدم القبول بأي شكل من اشكال التواجد، سواء على شكل قواعد او تدريب، أو مستشارين وغير ذلك.

ثانيا: ان يكون قرار الانسحاب ملزما، ويصدر من أعلى المؤسسات الأمريكية، وان يتعهد بذلك المجتمع الدولي.

ثالثا: الغاء جميع القرارات والإجراءات والقوانين التي صدرت بعد التاسع من ابريل 2003، وحتى خروج آخر جندي من قوات الاحتلال.

رابعا: عدم التفاوض او الحوار مع الحكومة الحالية، او اية حكومة اخرى يجري تنصيبها في ظل الاحتلال، وان يجري التفاوض بصورة مباشرة مع المحتل.

خامسا: ان قوى المقاومة تحرص على بقاء قائمة مطالب العراقيين مفتوحة، ولا يمكن تحديدها بعدد من الشروط،، وأن الذي يحدد ذلك جميع شرائح وأطياف الشعب العراقي، خاصة ما يتعلق بحقوق العراق والعراقيين، التي يجيزها القانون الدولي، اذ يعلم الجميع، حجم التخريب والدمار، الذي لحق بالعراقيين منذ بداية فرض الحصار على العراق، بحجة وجود أسلحة الدمار الشامل، وحتى آخر الضحايا والخسائر، التي يتكبدها العراقيون في ظل الاحتلال.

ان ثوابت المقاومين للاحتلال، لا تختلف بتعدد التسميات، وتوزع العناوين، لأن الاساس والمحفز، الذي انطلقت منه المقاومة، يرتكز الى قناعة وطنية راسخة وثابتة، لا تقبل المساومة، ولا يمكن اعتماد الاطار، دون الركون الى الجوهر. وان المتابع والمراقب لقضية الحوار مع المقاومة في العراق، يكتشف ان الفصائل المسلحة، حرصت على عدم تلبية رغبات الأطراف الأخرى (أمريكية وحكومية) بالحوار، واعتمدت استراتيجية (عسكرية وسياسية) دقيقة ومتقنة، تحرص في جميع مفاصلها ومراحلها، على الحاق المزيد من الخسائر بالخصم، وإنهاكه، ودفعه الى الاسراع بطلب الحوار، الذي يقود الى نقطة الحسم، وهي التفاوض، وفق الشروط التي يفرضها الطرف الاقوى في الميدان، وهو المقاومة، ولم تقبل المقاومة في العراق، التنازل عن شروطها الاساسية، ولم تساوم على المبادئ التي قاتلت في سبيلها، والتي تبدأ من اخراج الاحتلال، وتخلص الى المحافظة على وحدة العراق واستقلاله.

ان فك لغز الحوار او الاتصال مع المقاومة في العراق، ليس بالأمر الصعب، اذا ارادت الاطراف المعنية به التعامل بعقلانية وموضوعية مع مطالب فصائل المقاومة، وقد يكون في أعقد صورة وتفاصيله، اذا حاولوا تجاهل قوة المقاومة، وتمسكوا بخيار الغطرسة الجوفاء، التي اوصلتهم الى ما هم عليه الآن.

في جميع الأحوال، يجب ان تدرك الأطراف المقابلة، ان عدم تهالك فصائل المقاومة على الحوار، له دلالاته الواضحة، وان لدى قيادات المقاومة تصورا تفصيليا عن اعدائها، وقد تمكنت من التوصل الى استنتاجات علمية دقيقة، من خلال عمليات (جس نبض)عديدة، دفعت خلالها وسطاء ثانويين وبعيدين جدا عن تشكيلاتها الادارية والسياسية والعسكرية، وبقدر ما لديها من التصور والتقييم الشامل والدقيق والمعرفة بعدوها، فإن الآخر يجهل الكثير عنها، وهذا أحد مرتكزات قوتها وثباتها.

* كاتب عراقي

[email protected]