فرانكشتاين الفلسطيني

TT

لم ينجح الفلسطينيون في إقامة دولة حتى الآن، ولكنهم تمكنوا من تعويض ذلك جزئيا بشكل ما من أشكال المؤسسات التي حافظت على إبقاء وتكريس الطابع السياسي لقضيتهم كشعب طوال العقود الماضية وكي لا تكون مجرد أزمة لاجئين وأفراد، ونجحوا في الاقتراب جدا من هدف الدولة بعد اتفاق أوسلو وعودة عرفات الى الاراضي الفلسطينية.

فالسلطة حتى ولو لم تكن دولة بالمفهوم المتعارف عليه دوليا، لديها وزارات ومؤسسات وأجهزة أمن وعاملتها الدول الاخرى كدولة حقيقية تقيم معها علاقات دبلوماسية وتبرم معها اتفاقات مشتركة وتستقبل مبعوثيها وترسل اليها موفدين الى آخر العلاقات الطبيعية المعروفة، ولا يزال هذا قائما بشكل او آخر رغم الحصار، وهو رغم أي انتقادات أو اختلافات في الآراء انجاز بالمقارنة بما كان عليه الوضع في السبعينات والثمانينات والجزء الاول من التسعينات قبل قيام السلطة. والدليل ان الصراع الدائر في غزة اليوم هو من أجل السيطرة على أجهزة الدولة هذه التي لا زالت في طور الولادة.

إذاً هناك إنجاز تحقق يجب المحافظة والبناء عليه، لكن مسار الاحداث هذه الأيام يعطي انطباعا متشائما بإجهاض هذه الولادة المتعثرة منذ سنوات، ويصل الى حد التهديد بفوضى تضرب حتى المؤسسات الفلسطينية التي أقيمت قبل أوسلو.

أخطر ما يهدد بقلب الطاولة هي ظاهرة التطرف الاصولي التي بدأت شواهدها تظهر في غزة وفي المخيمات الفلسطينية في لبنان، حيث يبدو ان هناك خيطا يجمع بين الاثنين رغم البعد الجغرافي والاختلاف قليلا في الظروف. وكان يتصور ان الفلسطينيين بعيدون عن مرض التطرف هذا الذي ظهر كالسوس في دول عديدة في المنطقة ودول اسلامية.

في غزة استغلت مجموعات كما يبدو الفراغ الحادث بسبب المعركة الدائرة بين فتح وحماس على السلطة والهجمات الاسرائيلية لتفرض قوانينها ومفاهيمها على المجتمع الفلسطيني مستخدمة نفس اساليب طالبان و«القاعدة» في افغانستان بدءا من مهاجمة مقاهي الانترنت وأماكن الترفيه الى تهديد المذيعات الفلسطينيات غير المحجبات بقطع رؤوسهن وجعلهن عبرة لو لم يلتزمن بما يتصوروه ثيابا إسلامية، وخطف الصحافي مراسل البي بي سي البريطانية الذي لا يزال محتجزا حتى الآن تحملت مسؤوليته جماعة غير معروفة تضع لنفسها شعارات اسلامية ومطالبها ليست لها علاقة بالقضية الفلسطينية بل بسجين أصولي في بريطانيا.

وفي مخيمات لبنان كشفت الازمة الاخيرة في نهر البارد وفي عين الحلوة حجم الوجود الاصولي لمنظمات لم يسمع عنها من قبل او يتصور احد أنها بتلك القوة من حيث التسليح والتنظيم، فحتى القوة المشتركة التي شكلت من أجل حفظ النظام في عين الحلوة جاءت من منظمات لم يسمع عنها من قبل وليست من المنظمات المعروفة مثل فتح وحماس، والمعركة المفتوحة هناك مع الجيش اللبناني ليست لها علاقة بالقضية الفلسطينية، وهي تكرار لأخطاء سابقة ارتكبت في السبعينات والثمانينات حينما دخلت التنظيمات الفلسطينية معركة ليست معركتها وتسببت في الرحيل الى تونس.

مشكلة هذه التيارات الاصولية الفلسطينية انها تغير قواعد اللعبة كلها مستغلة أوضاعا معينة من الفراغ والضعف الذي تمر به المنظمات القديمة، وخطورتها انها تخرج القضية الفلسطينية عن مسارها لتضعها في إطار آخر يشتتها ويجعلها طرفا في الحرب العالمية على الارهاب،

ولن يقبل احد ان تتحول غزة الى افغانستان مصغرة، او ان تصبح المخيمات الفلسطينية قواعد لمتطرفين لديهم أجندة إقليمية ودولية وآخر همهم الحقوق الفلسطينية.

والأطراف الإقليمية التي تستخدم الورقة الاصولية هذه في لعبة الشطرنج الاقليمية لتحقيق أهداف معينة، أشبه بمن يخلق فرانكشتاين يمكن ان يخدم أهدافها لفترة، لكنها لن تستطيع السيطرة عليه مستقبلا وسيلتهمها في النهاية كما أثبتت تجارب سابقة في أماكن كثيرة بالعالم.