مسيحيّو المشرق أمام التحديات الصعبة

TT

في خضم الكلام الكثير عن صراع إسلامي ـ إسلامي في الشرق الأوسط بين السنة والشيعة، ومبادرة القيادات الحكيمة على امتداد المنطقة إلى التحذير من الفتنة وبذل المبادرات لتطويقها، نكاد ننسى وضع المسيحيين في مصر والعراق وبلاد الشام، بما فيها لبنان وفلسطين.

هذا التغافل خطير ليس فقط لأن المسيحيين جزء لا يتجزأ من المنطقة، وهم ليسوا بالتالي ظاهرة طارئة عليها، بل لأن البعض منا ـ عن قصد أو من دون قصد ـ لا يقدّر حق التقدير سلبيات خروجهم أو إخراجهم من المنطقة. فهم «الجسر» الحضاري الانفتاحي بين الشرق المسلم والغرب المسيحي، وعامل الاعتدال والتواصل داخل مجتمعات المنطقة.

هنا من المفيد جداً، والمؤسف جداً، القول ان بعض الديناميكيات الضاغطة باتجاه تصفية الوجود المسيحي ـ خروجاً وإخراجاً ـ مسيحية المصدر.. وليست كلها نتاج الأصولية الإسلامية والصهيونية اليهودية، مع أن الأصولية الإسلامية عامل غير مشجع للمسيحي العربي، أن يعيش في بلده كمواطن «ذمّي» من الدرجة الثانية، وأن الصهيونية اليهودية شرّدت وهجّرت حتى اليوم ما لا يقل عن 75% من مسيحيي فلسطين منذ 1948.

بالنسبة لمصر، التي يطيب للبعض أن «يخففوا» من نسبة عروبتها، ثمة أزمة الآن داخل المجتمع المسيحي القبطي يطول المجال للخوض فيها وتحليل تفاصيلها. وهي متفاقمة من ناحية بسبب العداء العلني عند بعض أقباط المهاجر البعيدة لفكرة العروبة والتعايش مع المسلمين، ومن ناحية ثانية في ضوء تراجع الشعور القومي في الشارع المصري المسلم لصالح الشعور الديني منذ نهاية التجربة الناصرية. وما لم تُعتمد سياسات واقعية بعيدة عن المثاليات كما كان يحصل في الماضي.. فإن الوضع قد يزداد سوءاً قبل تحقيق التحسن المأمول.

أما في العراق فإن موجة هجرة المسيحيين تأخذ اليوم أبعاداً خطيرة ومتسارعة. ففي وسط العراق وجنوبه يتسارع إيقاع الهجرة المسيحية بصورة مقلقة في ظل مأساة الحرب الأهلية الفعلية. أما في المناطق الكردية فيجوز القول إن الإرث التاريخي كان في أغلب الأحيان سيئاً جداً بين الأكراد والمسيحيين النساطرة واليعاقبة في شمال العراق. وقد نزح من شمال العراق وكذلك امتداد جبال الهكارية بجنوب شرقي تركيا (ذات الغالبية الكردية)، عشرات وربما مئات الألوف من المسيحيين خلال القرن الفائت إلى اوروبا وأميركا وغيرهما من ديار الاغتراب. والمؤشرات الراهنة، مع الأسف كحال مصر، غير مشجعة.

ونأتي إلى بلاد الشام، وتحديداً سورية ولبنان وفلسطين ولبنان والأردن.

في هذه البقعة من العالم العربي كان هناك أيضاً وجود مسيحي كثيف، وتمسك السواد الأعظم من المسيحيين بهويتهم العربية حتى قبل الفتح الإسلامي. وتخبرنا كتب التراث كيف أن الوجود المسيحي العربي في جنوب العراق وبلاد الشام سهّل أمر الفتوحات ولم يأت نتيجة لها، تماماً كما سهّل الخلاف العقائدي المسيحي ـ المسيحي بين الأقباط والبيزنطيين الروم دخول الإسلام ارض مصر.

غير أن هذا الوجود ـ الذي كما سبقت الإشارة يكاد يتلاشى في فلسطين ـ يواجه حاليا تحديات صعبة ومعقدة، اعتقد أن على المسيحيين قبل غيرهم، إيجاد الطرق الأمثل لمعالجتها. والحقيقة أن العلاج متعسّر في الظروف الراهنة، بين «مطرقة» الاحتلالات و«سندان» التحالفات الطائفية التكتيكية، وأمام خلفية قلة الاهتمام الدولي.. المسيحي بصفته الغالبة.

البعض يتصوّر أن الدعوة إلى الديمقراطية مدخل أكيد إلى الذوبان والتلاشي السريعين، نظراً لأن نسبة المسيحيين في الكيانات الأربعة ضئيلة جداً، فحتى في لبنان ـ حيث الكثافة الأعلى ـ ما عاد المسيحيون يشكلون أكثر من ثلث مجموع السكان. وثمة من يرى أن رفع لواء العلمانية، أيضاً، بات وصفة انتحارية في وجه غالبية مسلمة تنزع أكثر فأكثر نحو الطرح الديني، على أساس أنه هو «الحل».

ولكن إذا كان التفكير يتجه بعيداً عن الديمقراطية الحقيقية والعلمانية المسؤولة التي لا بد منها في مجتمع تعددي، فما هو الخيار؟

المأساة العراقية، لا شك، أقنعت كثيرين من المسيحيين والمسلمين حتى خارج العراق بأن «الأمن الممسوك» ـ وهو المرادف المهذب للديكتاتورية والتسلط ـ من دون ديمقراطية، أفضل ألف مرة من ديمقراطية لا تضمن تنقل المواطن سالماً من بيته إلى مركز عمله وبالعكس. ويبدو أن اقتراب لبنان من سيناريو «العرقنة» غدا له المفعول ذاته بين اللبنانيين، وهو ما يتكشف من ضياع المرجعيات المسيحية وارتباكها المعبر عنه في المواقف الضبابية المترددة للبطريركية ومجلس المطارنة. كما يبدو أن ما يصوّر على أنه «حصار سياسي» لسورية يستهدف النظام، بينما الفوضى الطائفية العراقية واللبنانية على أشدها، يدفع القيادات الدينية المسيحية السورية للتضامن مع نظام يرفع شعارات التآخي الطائفي.. في وجه البديل المجهول.

ولكن اعتبار السلامة هذا يبقى مؤقتاً.. ويستحيل أن يشكل استراتيجية طويلة الأمد قابلة للحياة. وعليه، فإن الاستكانة لسلبية «ليس في الإمكان أفضل مما كان»، والتغاضي عن تصرفات ساسة مغامرين وانتهازيين وأغبياء، وبالذات داخل المجتمع المسيحي، سيزيد المعضلة صعوبة ويدمّر كل فرص الإنقاذ.

فهل من يسمع ويتعظ قبل فوات الأوان؟