«مناورة» لا مبادرة.. والهدف تأجيل استحقاق الدولة المستقلة!

TT

الحماس الإسرائيلي المفاجئ لإعادة تحريك عملية السلام على المسار السوري، يستدعي العودة بالذاكرة الى عقد سبعينات القرن الماضي، حيث أعدَّ مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبيغنيو بير جنسكي، خطة لحل أزمة الشرق الأوسط في هيئة ثلاث دوائر متباعدة الإطارات متحدة المركز، أعطى آخرها للحل على المسار السوري، في حين أعطى أولها للجبهة المصرية وثانيها للجبهة الأردنية ـ الفلسطينية.

في هذه الخطة التي لو تم استعراض كل ما جرى خلال نحو ثلاثة عقود من الأعوام، في ضوء ما تضمنته، لاتضح أنها إن لم تكن قد طبقت حرفياً، فإنها قد طبقت بخطوطها العامة حيث في البداية، كما اقترح بيرجنسكي في خطته هذه، أُنجز الحل المصري ـ الإسرائيلي ثم بعد ذلك توصل الفلسطينيون والإسرائيليون، كما هو معروف، الى إتفاقيات أوسلو في عام 1993 وقد تلت ذلك مباشرة أي في عام 1994، معاهدة وادي عربة الأردنية ـ الإسرائيلية.

وهكذا فقد بقي الحل على المسار السوري معلقاً كل هذه الأعوام، وذلك مع أن سوريا التي كانت قد اطلعت على هذه الخطة بالتأكيد ما إن انعقد مؤتمر مدريد الشهير في عام 1992، حتى انخرطت في ما سمي «سباق المسارات» وأعلنت أن «كل شاة معلقة من عرقوبها» وأن كل واحد يُقلِّع شوكه بنفسه، تحاشياً لأن يتقدم المساران الفلسطيني والأردني على مسارها وتكون النتيجة الاستفراد بها بعد تجريدها من إمكانية إستعانتها بباقي الأوراق العربية وبخاصة الورقة الفلسطينية.

ولهذا فإن سوريا تحت ضغط الشعور بالاستفراد قد واجهت التعثرات المتلاحقة على المسار الفلسطيني بفرحة عارمة بل وهي بادرت الى احتضان حركة حماس، رغم كل ذلك التاريخ الدامي بينها وبين الإخوان المسلمين، لتبقى ممسكة بورقة فلسطينية تمكنها من تعطيل أي حلول على هذا المسار لا تنسجم مع الحل الذي تسعى إليه على جبهة الجولان، وقد تنتقص من مكانتها ودورها في المعادلة الإقليمية.

ثم وفي الاتجاه ذاته فإن سوريا، بعد إحساسها بالعزلة وبأنها مهددة بالاستفراد، بادرت الى وضع كل أوراقها على الطاولة وقامت بتحويل علاقاتها بإيران، من مجرد تناغم وانسجام يخضع لتقلبات مصالح البلدين، الى علاقات استراتيجية، وهنا فإن اعتماد حزب الله كمركز نفوذ لهذا التحالف، الذي اتخذ أشكالاً متعددة عسكرية وسياسية واقتصادية وأمنية، يأتي في هذا الإطار مثله مثل حركة حماس وحركة «الجهاد الإسلامي» في الساحة الفلسطينية ومثله مثل بعض القوى والتنظيمات العراقية في فترة لاحقة.

في كل الأعوام السابقة التي أعقبت اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين ورحيل الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، كان هناك تطابق في الموقفين الأميركي والإسرائيلي بالنسبة للإبقاء على مسار هضبة الجولان معلقاً بدون أي حل واقتصار أي تحركات في هذا المجال على مجرد العلاقات العامة وتقديم إغراءات وهمية لسوريا لفك تحالفها مع جمهورية إيران الإسلامية.

كانت سوريا أكثر الدول العربية اندفاعاً نحو السلام مع إسرائيل وقد أبدى الرئيس حافظ الأسد حرصاً شديداً، وبخاصة بعد إصابته بالمرض القاتل , على إنهاء هذا الملف بكل تعقيداته كي يأتي ابنه الى موقع المسؤولية متحرراً من هذا العبء الثقيل لكن حسابات البيدر لم تأت مطابقة لحسابات الحقل فقد أصبح القرار الأمريكي بيد المحافظين الجدد وقد رحل إسحق رابين ورحلت معه «وديعته» الشهيرة وقد انتهى الحكم في إسرائيل الى يد اليمين الأكثر تطرفاً الممثل أولاً بأرئيل شارون المعلق الآن من رموشه بين الحياة والموت، وثانياً برئيس الوزراء الحالي أيهود أولميرت الذي يحاول إخفاء «ليكوديته» ويمينيته بنعومة كاذبة مصطنعة مكشوفة.

لقد بقيت سوريا تبدي، حتى بعد احتلال العراق وشعورها بإضافة ورقة جديدة الى أوراقها السابقة، رغبة جامحة في العودة الى مفاوضات السلام وهي للبرهنة على أن رغبتها هذه صادقة قد تخلت عن أهم شرطين سابقين أي شرط استئناف المفاوضات المتوقفة من النقطة التي انتهت إليها وشرط اعتبار ما سمي «وديعة رابين»، التي يقال إنها نصت على اعتبار حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967 هي الحدود السورية ـ الإسرائيلية المستقبلية، ملزمة للإسرائيليين قبل أي استئناف للعملية السلمية، لكن إسرائيل منسجمة مع موقف الإدارة الأميركية بقيت تدير ظهرها لدمشق بصورة كاملة.

إذن ما الذي استجد ما دام أن الوضع هو هذا الوضع..؟!

الذي استجد هو أن أيهود أولميرت الذي يرأس حكومة ضعيفة ومفككة أحس بأن الرئيس جورج بوش جاد بتنفيذ ما وعد به العرب، بعد إعادة قمة الرياض الأخيرة التأكيد على مبادرة السلام العربية، بتحقيق تقدم فعلي بالنسبة لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، التي كان وعد الفلسطينيين والدول العربية والعالم بها، فلجأ الى هذه المناورة الأخيرة لإنقاد حكومته من جهة ولإبعاد الأضواء عن الموضوع الفلسطيني والتخلص ولو مؤقتاً من إستحقاق هذه الدولة الفلسطينية.

وبالطبع ولأن أولميرت، الذي سيزور الولايات المتحدة خلال الأيام القليلة المقبلة، والذي سيلتقي الرئيس بوش لمناقشة هذه المسألة ومسائل أخرى تتعلق بتطورات الأمور في لبنان وبالقدرات النووية الإيرانية، يعرف أن الهم الرئيسي للأميركيين هو هم العراق فقد وضع إبعاد سوريا عن إيران عنواناً للتحرك الذي يطرحه الآن والذي قالت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن دولتين مهمتين هما تركيا وألمانيا تواصلان العمل لإنجاحه وأن دمشق بدورها متحمسة له وتنخرط فيه بصورة سرية.

وبالطبع فإن أولميرت الذي يتباهى بأنه مناور من الطراز الرفيع قد أضاف الى هدف فكِّ الارتباط بين دمشق وطهران هدفاً آخر هو تخلي سوريا عن حركتي حماس و«الجهاد الإسلامي» الفلسطينيتين وتخليها عن حزب الله اللبناني ورفع يدها عن لبنان بصورة نهائية وهذا بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي يعتبر طعماً كافياً لتلتقط الصنارة الإسرائيلية الرئيس جورج بوش فيتحول بالنسبة للإنجاز «التاريخي»!! الذي يسعى من هدف إقامة الدولة الفلسطينية المنشودة الى هدف تدمير التحالف الإستراتيجي بين جمهورية «آيات الله» والجمهورية السورية.

إنها مناورة ولن يكون هناك أي شيء أكثر من مجرد هذه المناورة، ولهذا ورغم عزف كل هذه الألحان السلمية، فإن ما يجب ألاَّ يغرب عن البال أن سوريا التي يريحها أن تبقى القضية الفلسطينية عالقة بدون حل الى ان يتم إنجاز الحل المطلوب على مسارها، تعرف أن كل ما يقوم به الإسرائيليون هو مجرد مناورة يسعون لتسويقها على الأميركيين بجعل فك العلاقات السورية ـ الإيرانية عنواناً رئيسياً لها إضافة الى العناوين الأخرى التي هي رغم أهميتها تعتبر عناوين ثانوية.

ولهذا فيجب ألا يغرب عن البال أن هذا الصيف قد يكون عاصفاً وشديد السخونة فعوامل الانفجار وإندلاع حرب جديدة في المنطقة، قد تمتد الى إيران، باتت متوفرة وبات يكفي وقوع أي من اللاعبين الرئيسيين في خطأ الحسابات والتقديرات إن على جبهة المواجهة السورية ـ الإسرائيلية وإن بالنسبة لما بين طهران وواشنطن من توتر سببه الرئيسي الأوضاع المتردية في العراق وعنوانه الملف النووي الإيراني، وأيضاً إن بالنسبة للبنان الذي بات لا ينقصه سوى عود ثقاب ليشعل نيراناً إن هي اشتعلت فإن المؤكد أنها لن تقتصر عليه وحده!!

هناك احتقانات كثيرة وهناك انسداد أفق في المنطقة كلها وهذا لا يشبهه إلا الحيثيات التي أدت الى اندلاع الحروب العربية ـ الإسرائيلية السابقة وبخاصة حرب يونيو (حزيران) عام 1967 التي حلَّت ذكراها الأربعين قبل أيام والتي لو عدنا الى الحيثيات التي سبقتها، إن عربياً وإن إسرائيلياً وإن أميركياً أيضاً، لوجدنا أن الحيثيات الشاخصة حالياً إن لم تكن هي نفسها الحيثيات السابقة فإنها تتقاطع معها في مفاصل كثيرة ومتعددة.

لا يمكن أن تكون المناورات الجوية الأميركية ـ الإسرائيلية الأخيرة مجرد مناوراتٍ روتينية وعادية، ولا علاقة لها بإرتفاع حرارة المنطقة ثم ولا يمكن أن يكون الرد الإيراني على هذه المناورات بالتهديد بضرب كل قواعد أميركا في هذه المنطقة من قبيل مجرد التخويف وليس أكثر من «الهَوْبرة» والتخويف وهذا يعني أن الأمور ذاهبة الى المواجهة، ولكن على أنغام السلام الراقصة الجميلة!!