شاهين شاهين أصولي مبدع

TT

فجأة، إذاً، اختفى شاكر العبسي، مؤسس تنظيم «فتح الإسلام»، عن الأنظار، ومثله أبو هريرة، المسؤول العسكري الذي قيل بأنه كان يدير المعارك ضد الجيش في مخيم نهر البارد، وانكفأ معهما ابو سليم طه، الذي عرف بأنه المتحدث الإعلامي باسم التنظيم، وكان يحتفظ بعلاقات شبه يومية مع الصحافيين عبر هاتف جوال. غاب كل هؤلاء منذ حوالي الأسبوع، وتماماً في الوقت الذي بدأت فيه المعارك تشتد، وتنظيم فتح الإسلام يصعّد هجماته حتى أوقع ما يشبه مذبحة في صفوف الجيش اللبناني يوم السبت الماضي. وبرز عوضاً عن الثلاثة المنكفئين الذين شكلوا واجهة التنظيم، شخص واحد هو شاهين شاهين، يتحدث للصحافيين، ويفاوض الوسطاء، ويقال بأنه يدير المعارك العسكرية حالياً في المخيم. ولشاهين شاهين اسم حركي يناديه به رفاقه في التنظيم، وهو أبو سلمى.

غياب الرؤوس الثلاثة المعروفة، أربك المفاوضين والصحافيين معاً، وطرح أسئلة عديدة حول مصير قيادات فتح الإسلام، فتحدث البعض عن تغييرات داخلية أو خلافات، وفضل آخرون ترجيح فرضية قتل أو جرح القيادات، وبروز اسماء غيرها. إرباك وضياع، حدا بالداعية فتحي يكن، بعد ان حمل مبادرة إلى داخل المخيم، وفوجئ بحلول أبو سلمى أو شاهين شاهين، مكان الوجوه التي كان يعرفها، بالقول بأن القاعدة الدولية باتت تمسك زمام المبادرة، ولم يعد من رأس نعرفه نستطيع التفاوض معه.

وهنا يطرح السؤال حول القائد الفعلي لهذه المجموعة السرية القابعة اليوم في سراديب وأزقة نهر البارد، وتقاتل الجيش اللبناني وكأنها شبح، وتتناقل الصحافة الشائعات حولها اكثر مما تعرف حقيقة بنيتها البشرية، وكيف تنتظم، ومن يسيّرها، وبأي اتجاه؟

والحقيقة أن ظهور أبو سلمى ليس جديداً تماماً كما يظن البعض، وقد تردد اسمه لمرات محدودات كمتحدث باسم التنظيم في شهر مارس الفائت. وعندما ذهبت لمقابلة شاكر العبسي نهاية فبراير الماضي، جلس الرجل وراء مكتب، في مكان اعتاد ان يقابل فيه الصحافيين، داخل مركز صامد الذي ربما، أصبح اليوم اشهر من البيت الأبيض، وإلى يمينه جلس ابو سلمى يغطي رأسه بكوفية ويلفها حول رقبته، وبقي مصغياً، وبين يديه ورقات بيضاء صغيرة، يدون عليها ملاحظاته ويمد بها العبسي طوال الوقت، وهو يجيب على أسئلتي. والعبسي، المبتسم، الهادئ، المتأني الذي ينتقي كلماته، ويتحدث بهدوء ودعة لافتتين، وبشيء من الطرافة، كان يجد الوقت الكافي ليقرأ الملاحظات التي كان ابو سلمى، المتجهم، العبوس، يسجلها بين الحين والآخر، ويضعها امامه على الطاولة.

وكما كل المغفلين الممنهجين، انصب اهتمامي في تلك اللحظة على ما يقوله العبسي، باعتباره المؤسس والقائد، وصاحب الكلمة في التنظيم، لكن ما ان احتد الحوار حتى خرج أبو سلمى عن صمته، وبدا على عكس العبسي غاضباً، شديد الحماسة، ممتعضاً بشدة من الجيش اللبناني الذي يرابط على مداخل المخيم، وقال ان «مخيمات الفلسطينيين في لبنان هي دون المستوى البشري، ثم جاء الجيش ووضع السياج حول نهر البارد ليزيد الطين بله ويجعله أشبه بحديقة حيوانات، منه الى مكان سكن آدميين». وما زالت ترن في أذني كلمات ابو سلمى حين دافع عن تنظيمه، واصفاً اياه بانه «يضم كادراً جامعياً، ومثقفاً»، ومؤكداً بعبارة نادراً ما تصدر عن إسلامي متطرف: «نحن قادرون على الإبداع». لحظتها تساءلت من يكون أبو سلمى الأصولي هذا الذي يتحدث عن «الثقافة» و«الإبداع»؟ لكن رغم اللكنة التي تدل على أن أبو سلمى ليس فلسطينياً ـ لبنانياً، فإن نبرة الغيرة على المخيمات التي كان يتحدث بها، توحي بانتماء اليها واكتواء بنيرانها.

منذ وجهت اصابع الاتهام صوب التنظيم في حادثة تفجيري «عين علق» منتصف شهر مارس الماضي، لم يعد ابو سلمى في الواجهة، توارى لشهور قبل ان يعود منذ ايام، ويظهر وكانه الرجل الأوحد الذي يمسك بكل خيوط لعبة نهر البارد.

الذين عايشوا شاكر العبسي خلال سنواته العديدة التي اقامها في المخيمات اللبنانية، يقولون انه حتى اثناء الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، حين كان في عزّ شبابه، لم يقاتل على الأرض. احد معارفه يؤكد بأنه ليس رجل ميدان على الاطلاق، بل هو من هواة الطيران، ويمازحنا قائلاً، «لو وجد من يحدثه عن الطيران في هذه اللحظة لنسي نهر البارد بمن فيه». ثمة من يقول ان العبسي افلاطوني يحلم بتغيير العالم، هذا صحيح، لكنه ليس مقاتلاً، وانه حتى لو ذهب فعلاً، في الفترة الأخيرة إلى العراق، فذلك للتنسيق مع جماعات هناك، لا للقتال أو المشاركة في عمليات. أما نائبه، أبو هريرة الذي يصفه أهل المخيم بالدموي الشرس، والفظ ايضاً، يقول العقلاء الذين يعرفونه عن قرب بأنه «أبله»، ومن العسير جداً التصديق بقدرته على قيادة معركة، وتحريك مجموعات بأسلوب عصابات كالتي تجري حالياً في البارد. ويسخر أحد هؤلاء قائلاً: «على واحدنا أن يكون مختلاً كي يقتنع أن ابو هريرة يمتلك هذه المواهب التخطيطية». أما الرجل الثالث أبو سليم طه والذي بقيت مهمته المعلنة إعلامية حتى تواريه، فكل ما نعرفه عنه هو ما كان يقوله للصحافيين، ويذاع على الملأ.

لهذا كله، لا بد أن يتساءل واحدنا، من هو القائد الفعلي لتنظيم فتح الإسلام في نهر البارد، ومن الذي يدير المعارك الدموية التي دخلت اسبوعها الرابع. وهل شاكر العبسي ونائبه ابو هريرة، وضعا كواجهة فلسطينية ـ لبنانية، تمويهية لشخصيات اخرى، اشد فعالية تدير المجموعة العربية التي تجمعت شمال لبنان؟ وما دام ثمة من يقول ان ابو سلمى أيضاً، ليس محنكاً بالقدر الكبير الذي نتصور، فمن هم المحنكون الذين يديرون هذا الجحيم المقيم ويشردون أكثر من 25 ألف لاجئ، ويفرضون رعباً على اللبنانيين، لم يسبق لهم ان عاشوا على شاكلته، منذ حطت الحرب اوزارها؟

الأسئلة حول تنظيم فتح الإسلام ما تزال اكثر من الأجوبة، رغم كل الحكايات التي تنشر وتروى، وغالبيتها من باب الاجتهادات. وما هو أكيد اننا أمام خطة محبوكة الخيوط ومدبرة براثنها بعناية، وأبعادها كان يراد لها أن تتجاوز نهر البارد لتحرق لبنان برمته. والآن، ونحن نقترب من الشهر على اندلاع هذا الحريق الملغّز، فإن أحداً ـ وهنا تكمن المأساة ـ لا يستطيع أن يخبرنا إذا كنا نقترب من باب الفرج مع تضييق الخناق على عناصر التنظيم في البارد، ام ان فروعاً له، بأسماء تجارية مختلفة، يمكن ان تفتتح في مناطق أخرى، رغم عمليات الدهم والتوقيف الواسعتين، على مدى الأراضي اللبنانية. ألم يقل ابو سلمى اننا أمام مجموعة من المبدعين؟

[email protected]