دولة «الجزر الأمنية»

TT

لا يسع أي مراقب للخريطة السياسية ـ الاجتماعية الراهنة للبنان إلا أن يستغرب مدى انتشار ما يسمى بـ«الجزر الأمنية» الخارجة على سلطة الدولة. ولولا الخوف من المغالاة لجاز القول بأن «الدولة» اللبنانية نفسها أصبحت، في عقر دارها، جزيرة معزولة في أرخبيل من الجزر المسلحة.

منذ «اتفاق القاهرة» الذي شرعن «فتح لاند» في الجنوب اللبناني في الستينات وسيادة لبنان على أرضه تتآكل باطراد.

اتفاق القاهرة، رغم معارضته من العديد من اللبنانيين، كان له آنذاك مبرره العربي الاستراتيجي. ولكن هذا المبرر سقط مع توقيع مصر لاتفاق كامب ديفيد وتوقيع الأردن لاتفاق وادي عربة والفلسطينيين أنفسهم لاتفاق أوسلو وتحول السلام مع إسرائيل إلى «خيار استراتيجي» في الموقف السوري من تل أبيب.

على مدى العقدين المنصرمين، تغيرت صورة «المواجهة» العربية مع إسرائيل من دون أن يتغير موقع لبنان على خريطة هذه المواجهة، فبقي خط التماس الوحيد الملتهب بين الجبهات العربية كلها وأصبحت أرضه ملجأ ـ وربما الأصح متحف شمع ـ لكل «الفصائل» التحريرية المدججة بالسلاح والمدعومة من هذه الجهة أو تلك. فلا عجب أن يتحول لبنان الى الأرض المفتوحة في وجه الحركات الانشقاقية على الساحة الفسطينية.

ولكن حين تحولت بعض هذه الفصائل ـ ربما في عملية هروب الى الأمام من مشاعر الإحباط القومي ـ إلى بؤر أصولية متشددة، وجدت «الجزيرة اللبنانية» نفسها تغوص في محيط هائج تهب رياحه من كل حدب وصوب.

قد لا يكون للدولة اللبنانية عذر مقبول لتغاضيها، حتى الآونة الأخيرة، عن هذا التسلل العسكري «الأخوي» إلى داخل أراضيها. ولكن من الإجحاف إنكار دور عهد الوصاية السورية في تسهيل التسلل الفلسطيني إلى لبنان ومن ثم تأطيره في مربعات أمنية معظمها يدين بالولاء لنظامها. ونجاح هذه الاستراتيجية شجع دمشق على استكمالها لبنانيا عبر اعتماد مقاربة «انتقائية» في تطبيق اتفاق الطائف بشأن نزع سلاح الميليشيات اللبنانية، فأبقت على سلاح حزب الله ـ وعززته ـ انطلاقا من مبررات لا تخرج، ظاهرا، عن مفهومها لدور لبنان كخط التماس الوحيد المتحرك بين كل الجبهات العربية الساكنة ـ بما فيها جبهة الجولان ـ وباطنا عن سعيها لإيجاد فصيل لبناني مسلح يدين بولائه للنظام السوري. واليوم بات تنظيف لبنان من الجزر الأمنية المدججة بالسلاح والغرباء عن كل وطن وقضية – لا الثلث المعطل ولا حكومة الوحدة الوطنية ـ هو عنوان المرحلة. وقد يكون التساؤل الذي يتبادر الى الذهن اليوم هو لماذا يستمر بعض اللبنانيين في التمسك بشكليات الحكم فيما الخيار البسيط، والمصيري، المطروح عليهم كلهم هو: «دولة أو لا دولة».

إذا كان خيار اللبنانيين هو الدولة، فالدول لا تستجدى بل تؤخذ ـ كالدنيا ـ غلابا. وأخذ الدولة اليوم متاح للبنانيين إن أحسنوا توظيف أجواء حالة الطوارئ غير المعلنة لتجاوز انقساماتهم السياسية والالتفاف حول ثوابتهم الوطنية، كما جرت العادة في دول العالم الأخرى.

في بعدها الوطني، المعركة التي يخوضها جيش لبنان في نهر البارد هي الخطوة الاولى في مسيرة قيام الدولة القادرة والنقلة الحاسمة في عملية استعادتها لقرارها الداخلي.

لذلك لم يعد كافيا ان يمطر اللبنانيون جيشهم بالدعم المعنوي وبمهرجانات التأييد، فيما المطلوب تحول جذري في اولويات المرحلة يجسد وحدة اللبنانيين حيال مشروع الدولة المنطلق من نهر البارد.

شئنا أم أبينا، معركة نهر البارد هي فرصة لبنان التاريخية للخروج من جيل «دار الحضانة» الى جيل الفتوة. وإذا كان بعض اللبنانيين لا يستشعرون الأبعاد المستقبلية لهذه المعركة، فلا عذر للقيادات الحزبية المدركة للأخطار المحيقة بلبنان لأن تستمر في ممارسة المماحكات اليومية للعبة سياسية تجاوزها الزمن والحدث معا.

من هذا المنطلق يصح الترحيب بالمبادرة الفرنسية لإعادة إحياء الحوار الوطني اللبناني على أي مستوى كان، فبقدر ما تنجح «الأم الحنون» في تذكير «الابن الضال» بأنه فرط بلا مبرر ـ ولا يزال ـ بدولة المؤسسات التي خلفتها له عقب استقلاله الأول عام 1943، بقدر ما تساهم في إنجاز استقلاله الثاني ـ والأخير إن شاء الله.