بين الاستديو والشارع

TT

ثمة مشهد من حرب لبنان لا يفارق الذاكرة: مقاتل من «الكتائب» متوحش المظهر يشرب الشمبانيا احتفالا بسقوط منطقة النبعة، ولكن على طريقة شرب الدماء. التعبير عن هذا النوع من المشاعر في لحظة «عفوية» يترك في النفوس الأخرى اثراً أسوأ بكثير من القتال نفسه. فالقتال مواجهة بين فريقين، أما الابتهاج بالقتل والموت فدليل على انعدام آخر حس بشري في الانسان. والشماتة لا تصح حتى بالعدو، لأنها دليل سوء خلق وفظاعة التعبئة. وفي لبنان يسارع الخصوم الى تبادل التعازي خوف ان يتهموا بالشماتة في الموت. فهي افظع تعبير يمكن ان يصدر عن الأحياء.

تبادل اللبنانيون الشماتة ببعضهم البعض في اشكال كثيرة. وخلال دورة كأس العالم في كرة القدم رفعوا على الشرفات اعلام الفرق المختلفة، نكاية ببعضهم البعض، وكانوا لا يهزجون فرحا بفوز فريق بل ابتهاجا بهزيمة آخر. ففي هذه الحالات النفسية القاتمة لا يعود الانتصار مبعث البهجة بل هزيمة الآخر حتى الموت. ولا يعود الخصم خصما مرحليا تمكن مصالحته فيما بعد، بل يتحول الى عدو مطلق يجب ازالته من الوجود. وفي مثل هذه النوبات الجماعية تصبح مذيعة الاخبار شريكة اساسية في الابتهاج. ولم تقل سوسن صفا فقط انها فرحة لاغتيال وليد عيدو بل قالت انها تحصي الذين يسقطون على لائحة الاغتيال. فهؤلاء لم يعودوا سوى ارقام في النشرة المسائية أو عنوان في النبأ العاجل. وقد أصبح اللبنانيون يتعوذون عندما يرون اللون الأحمر وكلمة عاجل تظهر على الشاشة. انهم يخشون ان يقرأوا ذات يوم نبأ موت بلدهم دفعة واحدة بدل اعلانات النعي بالمفرق.

الحقيقة ان سوسن صفا ضبطت في حالة البهجة، لكن احصاء قتلى «الفريق الآخر» ليس حالة خاصة. ونشرات الأخبار في لبنان تحولت الى مشاتم وتحريض واستعداء. واذا كانت سوسن صفا قد ابتهجت في الاستديو، ظنا منها ان الهواء لم يعط لها بعد، فإن الناس في بعض الاحياء خرجت تطلق النار في الشوارع وعلى الشرفات. فوليد عيدو لم يستشهد انما وقع عليه القصاص.

سوسن صفا ضحية نشرة الاخبار التي تقدمها كل يوم. فالألفاظ والمصطلحات التي تستخدمها في الحالات العادية، لا بد أن تؤثر فيها كما تؤثر في سامعيها. والنتيجة الطبيعية التلقائية لهذا الغسل اليومي، أن ينصرف المذيع الى احصاء الاعباء التي ينفضها عنه يوما بعد يوم. لقد سئمت سوسن صفا من بث اخبار وليد عيدو ولا تزال تتضايق من الاضطرار الى ذكر اسم أحمد فتفت. وفيما هي تعبر عن ذلك بعد التأكد من أن «الماكياج» قد اكتمل واصبحت جاهزة للظهور واعلان النبأ على الملأ، كان اصحاب الرشاشات يسبقونها الى الابتهاج على طريقتهم. وهذه ليست حالة معزولة. انها حالة عامة في بلد ضاقت فيه الصدور والآفاق والأفئدة، وضاقت ايضا طرق الجنازات. وليست نشرات الأخبار ومذيعاتها سوى أدوات بسيطة في فتنة كبرى.