العروبة في السياسة السعودية (2)

TT

قد يبدو حديثي اليوم بعيداً عن الحدث العربي المفجع الذي يجسده تفسخ السلطة الفلسطينية، وانهيار حكومة الوحدة الوطنية تحت مطارق الحركة الإخوانية الانفصالية في غزة. قلت دائماً إن الإخوان المسلمين غير مؤهلين لبناء علاقة ديمقراطية وتعاونية مع القوى السياسية الأخرى، إذا ما أمسكوا يوما بالسلطة في بلد عربي. لكن استكمال الحديث عن عروبة السياسة السعودية الذي بدأته في الثلاثاء الماضي يؤكد ضرورة العودة الى إحياء الانتماء الى هوية قومية واحدة، في مواجهة ظاهرة التفتت الاجتماعي، والاقتتال الحزبي والمذهبي، وفي التصدي للهجمة الأعجمية والأجنبية الشرسة على الأمة العربية، باسم الدين «الجهادي»، أو بالدعوة الأميركية الى «الإصلاح الديمقراطي» عبر قلب النظام العربي، لإشاعة «الفوضى الخلاقة» التي أتت على عروبة العراق.

لا أقدم عرضاً دعائياً للسياسة السعودية، إنما أقدم رؤية تفسيرية لتاريخ الدولة السعودية خلال ثلاثة قرون، رؤية تختلف عن الرؤى التقليدية. غرضي تصحيح ما أمكن من تشويهات متعمدة تلحق بدولة عربية تاريخية، أمام الرأي العام العربي، إما بعرض «وثائق» من غير شرح ظروفها، وإما من خلال تفسير «أكاديمي علمي» يخفي وراءه الابتزاز المادي والعصبية القبلية، وإما من خلال معارضة تتخذ من الخارج منفى ومأوى لتزمتها وانغلاقها.

لقد سبق لي منذ سنوات أن عرضت في سلسلة مقالات، في هذه الجريدة، تاريخ الدولة السعودية. ولدهشتي البالغة، وجدت أن العرب وكثيراً من السعوديين لا يعرفون هذا التاريخ النضالي جملة وتفصيلا. جهد فردي لا يكفي. لا بد من مؤرخين وأكاديميين ومفكرين سعوديين يقدمون المشروع السعودي الى الأجيال الجديدة، برؤى فكرية حداثية. كان المشروع السياسي السعودي وحدوياً منذ البداية. الدولة السعودية منذ نشوئها في منتصف القرن الثامن عشر دولة الوحدة. وحدت الدولة السعودية الجسم الأساسي الشمالي لشبه جزيرة العرب. لضمان نجاح الوحدة، فقد نهجت الدولة السعودية نهجين رئيسيين: تحضير وتمدين القبائل والعشائر البدوية، وتبني الدعوة الدينية الإصلاحية والمتطهرة التي جاء بها محمد بن عبد الوهاب. خلافاً للظن العام، فآل سعود أسرة مدنية. لم يكن السعوديون قبيلة أو عشيرة هائمة في الصحراء. كان اقتران المشروع السياسي

بالمشروع الديني متعمدا ومقصودا، لأن الدين كان عامل التوحيد الوحيد بين القبائل، بديلا للغزو والاقتتال.

لم يكد المشروع العربي السعودي يتبلور في دولة موحدة لنجد والأحساء والحجاز في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، حتى أطل التدخل الخارجي لضرب هذه الدولة العربية الوحدوية، ممثلا بالدولة العثمانية ووكيلها محمد علي حاكم مصر، ثم ببريطانيا التي مكّنت لنفوذها في أطراف الخليج.

كان القرن التاسع عشر كفاحاً سعودياً لاهباً من أجل التحرير. دفع حكام سعوديون متعاقبون الثمن غالياً. اغتيل مَن اغتيل. أعدم من أعدم. قُلب من قلب. أُسر من أسر. دُمرت الدرعية. احتل الأتراك الأحساء. تم فصل الحجاز عن نجد. تم تأليب القبائل ضد القبائل، وضد المشروع الوحدوي. مع ذلك، لم تطفئ النكسات المتعاقبة جدية المشروع الوحدوي. ما إن يسقط حاكم حتى يقوم حاكم سعودي آخر محله. يستعيد نجد. يحرر الأحساء. همة لا تخمد. شجاعة لا تتراجع. حصافة سياسية ذكية تجمع ولا تفرق. ثم كان القرن العشرون استعادة تامة لوهج المشروع الوحدوي السعودي وللدولة السعودية. تحدى عبد العزيز آل سعود الظروف المحلية والدولية التي كانت كلها ضده. جمع الرجل بين المفاجأة العسكرية والفطنة السياسية، ودهاء التعامل بوعي كامل للظروف الدولية مع دول التدخل الخارجي. كان من الذكاء بحيث استعاد بصبر عجيب عبر السنين وحدة الدولة من الأحساء إلى الحجاز، ومن جبل شمر وحائل إلى عسير ونجران.

علاقة الوصل والهجر مع بريطانيا لم تسمح للدولة العظمى بخداع السعوديين كما خدعت الهاشميين في الحجاز. الواقع أن بريطانيا كانت منقسمة إزاء السعوديين: القيادة البريطانية في العراق مسايرة لهم. القيادة البريطانية في مصر كانت ضدهم. أخيرا، لم يكن أمام بريطانيا سوى الاعتراف بدولة عبد العزيز.

واقعية عبد العزيز أجلت إعلان دولته نحو ثلاثين عاما! عندما استكمل مشروعه الوحدوي في قلب الجزيرة، أعلن قيام دولته المستقلة والمحررة (1932). حرص منذ اليوم الأول على تأكيد عروبتها: «المملكة العربية السعودية». غريزة عبد العزيز السياسية أبعدت بريطانيا عن التنقيب عن النفط. اختار عبد العزيز أميركا يوم كانت أميركا ولسون وروزفلت حلماً عربياً مقبولاً، بدلاً من الكابوس الاستعماري الأوروبي. لم تكن أميركا، بعد، حلماً صهيونياً.

لم يكن البعد الاجتماعي غائباً عن وعي عبد العزيز. مضى مبكراً (1912) في مشروع تحضير القبائل وتمدينها. اتخذ المشروع طابعاً اشتراكياً! أقام عبد العزيز مائة مزرعة تعاونية. تمّ توطين وإسكان خمسين ألف بدوي يمثلون اليوم نواة المدينة والدولة الحضرية. ربط عبد العزيز الإنسان البدوي بالأرض. بالوطن. عندما قاوم التزمت الديني تثبيت حدود الدولة مع الجيران ثم التنقيب عن النفط، كان عبد العزيز حاسماً في القضاء على كل معارضة لمشروعه التحديثي التدريجي.

مع استقرار الدولة والاعتراف العالمي بها، انطلق عبد العزيز منذ بداية الأربعينات نحو العالم العربي. كعادته، كان متمهلاً. حذراً. متحفظاً. لم يساير الدعوة الوحدوية والقومية العاطفية، إنما ساهم مع مصر في إنشاء جامعة الدول العربية. كان التعاون والتنسيق السياسي مع مصر محور السياسة السعودية، حتى بعد وفاة العاهل المؤسس (1953). في الصراع على سورية، أحبط المحور المصري/ السعودي مشروع سورية الكبرى البريطاني.

دعمت السعودية مصر عبد الناصر في كفاحها ضد حلف بغداد، وفي حرب السويس. لكن التنسيق السعودي/ المصري تعرض إلى نكسة خطيرة عندما حاول عبد الناصر من خلال الوحدة مع سورية، وتبني الاشتراكية الماركسية، ودعمه العسكري للثورة اليمنية،... تهديد الدولة السعودية والخليجية. الوعي السياسي العربي عند الراحل فيصل بن عبد العزيز حال دون الشماتة بناصر في هزيمته أمام إسرائيل. صالحه. موّل إعادة بناء جيشه. بل اعترف بالجمهورية في اليمن، في مقابل الانسحاب المصري.

كانت حروب صدام المجنونة مصيبة كارثية لحلم فهد بن عبد العزيز العربي. استنزف صدام موارد الخليج، في وقت انهيار أسعار النفط في الثمانينات. وضع فهد أنابيب النفط السعودي في تصرف العراق لإنقاذه من الحصار الإيراني/السوري، ومن استجداء إسرائيل ويهود أميركا لعدم التعرض للنفط العراقي في حالة تصديره من ميناء العقبة. حاول عبد الله بن عبد العزيز ولي عهد الفهد مصالحة صدام والأسد. كان الخلاف الشخصي فوق طاقة حسن النية السعودية. ثم كان احتلال الكويت عذاباً شخصياً لفهد بن عبد العزيز الموزع بين خوفه على عروبة العراق، وغدر صدام وتنكره لتعهده بعدم حسم الخلاف بين العرب بالقوة. في حمله العبء عن أخيه الفهد الذي أثقلت الظروف غير المؤاتية حلمه العربي وجسده بالهموم والأمراض، يتقدم عبد الله بن عبد العزيز بحلم سعودي متجدد: تقديم «وحدة التعاون» على «وحدة التضامن» في العلاقة العربية. كانت قمة الرياض فاصلة في واقعيتها السعودية، لتجديد مبادرة السلام في مقابل استعادة الأرض، وإعادة بناء العلاقة العربية، على أساس إحياء الهوية القومية.

تحدثت في الثلاثاء الماضي عن مشروع عبد الله بن عبد العزيز. كرست هذا الثلاثاء للحديث عن تاريخ العروبة في المشروع السعودي. لا شك أن انحياز سورية لإيران، واستمرار تدخلها غير المشروع في لبنان، وانهيار اتفاق مكة الذي تتحمل «حماس» المسؤولية عنه، وتمادي إيران في هجمتها على المنطقة العربية... كل ذلك يشكل تحديا ليس لمكانة واستقرار النظام السعودي، وإنما لفطنة وذكاء ووعي القيادة السياسية السعودية.

عودة مبارك بمصر الى حضن العروبة أحيت المحور المصري السعودي. المحور يمنح العرب أملا كبيرا في تجديد لحمة النسيج الاجتماعي العربي، ومقاومة التفسخ السياسي. آمل ألا أكون حالما وغير واقعي عندما أرى في الانتماء القومي الأوسع بديلاً مقبولاً لدى العرب للانتماءات الأضيق، من عشيرية وطائفية ومذهبية و... «جهادية» عمياء.