التويجري.. الإنسان الملهم الذي تقمصته روح المتنبئ

TT

لم أكن أنشط ذاك المساء لقراءة الصحف والمجلات العربية التي تتراكم كالهم على القلب، وتتزايد وتتضخم من دون حاجة واضحة، فقد بدأ لي أنني أعرف ما بداخلها حتى وهي مغلقة ومغطاة بالقدر الذي يجعلها تستعصي على مطالعة المتطفلين والمحتاجين، وما كان في نفسي من إحباط لا يتحمل المزيد. ومع ذلك وجدت نفسي من دون إرادة مني ـ وربما بحكم العادة ـ أمام ركن عرض الصحف العربية في مجمع المدينة التجاري بالدوحة، ورغم أن الصحف كانت ترقد فوق بعضها، فقد رأيت الخبر بل أحسسته يتصدر الصفحة الأولى لجريدة «الشرق الأوسط»، وقد غطت بعض جوانبه الصحف الأخرى. الفقرة الأولى تحمل نعي خادم الحرمين الشريفين. وفي السطر الثاني ظهرت كلمة «التويجري» وسحبت الصحيفة، وأنا استعصم بالوهم أن يخيب الظن المفجع في ذهني، كما استعصم المتنبئ بالتكذيب حين فجعه الخبر:

طوى الجزيرة حتى جاءني خبر... فزعت فيه بآمالي إلى الكذب

نعم الموت الحق، وقد كنت أعرف أن الرجل العظيم كان يصارعه لبعض الوقت، ولكن الموت يفاجئنا ويفجعنا وإن وتوقعناه.

وللحظة بقيت مذهولاً أتلفت يمنة ويسرة، أبحث عن شخص أشاركه لذعة المصاب. وقد هالني أن أحسست بهذا الكم الهائل من البشر في شغل عني بمشترياتهم ومشاغلهم. ما سمعوا بالشيخ الذي رحل عن عالمهم، وما قرأوا له وما أحسوا بفقده حينئذ فقط تتجلى لك نعمة الجهل. وامتدت يدي الى الهاتف النقال أطلب الطيب صالح في لندن. لا أدري إن كنت أنوي تعزيته، أو التمس منه العزاء أم أزف اليه خبراً أعلم أنه قد وصله.

كان الشيخ التويجري يعني للطيب صالح وأنا، أكثر مما يعني للكثيرين، كنا نلتقي به كلما جمعتنا الظروف في الرياض ولندن ونيويورك، نتجاذب الحديث في الفن والأدب والفكر. وكثيراً ما كنا نتوقف عند أبي الطيب. وكان ذهنه متوقداً دائماً وقلمه نشطاً يسابق ما تبقى له ولنا من زمن. كان ذلك قبل أن يدهمه أصحاب الحاجات والأقلام. وحين اتصلت، كان الطيب قد قضى شطراً من ذلك اليوم، يعد مقالاً عن الراحل العظيم لمجلة «المجلة» ثم منعه المرض من المواصلة، ولم يكن في وضع يسمح له بالحديث معي. وبقيت وحدي مع الخبر والذكريات.

كان معالي الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري واحدا من أبرز أعلام السعودية الكبار، وهو واحد من ثلاثة مبدعين لم يفلح المنصب الكبير في كف ألسنتهم وتغييب مشاركاتهم الأدبية والفكرية. وهم أصحاب المعالي الشيخ عبد العزيز التويجري والدكتور عبد العزيز الخويطر والشيخ عبد العزيز سالم. اذا قدر لك أن تعرف واحداً منهم فقد كتب لك حظ عظيم. وهبهم الله قدراً من الانسانية والرجولة والوفاء والوعي والعمق، لم يتح الا لنفر نادر في هذه الدنيا. وتشربوا بحب هذا الوطن وتراثه وترابه ووهبوا حياتهم لخدمته في تفان لا يتطرق اليه التردد والوهن.. وكتب لثلاثتهم أن يحملوا نفس الاسم، وان يخدموا بلدهم في أدق مراحل تطوره من مواقع قيادية مسؤولة، في نزاهة وتجرد وبعد عن الصغار. اختارتهم لمواقعهم قيادة راشدة تعرف كيف تختار، وتعرف كيف تضع الرجال في موضع الرجال.

وراء مظهرهم الرسمي. ومواقعهم الحساسة تكمن عند كل واحد من الثلاثة، قدرة فائقة على العطاء الفكري الثقافي الثر. تفجره موهبة إبداعية فذة، وقدرة على التعبير الذكي اللماح، ورأي ثاقب أنضجته التجارب. وأصالة متصلة بالأرض والتراث.

وكل واحد منهم حريص أشد الحرص على أن ينأى بموهبته الادبية بعيداً عن الأضواء، تواضعاً وزهداً في الشهرة، وبعداً عن التباهي وحماية لمواقعهم أن تخدش من قريب أو بعيد، من المتسكعين في الطريق العام، وضنا بموهبتهم من لغو الدهماء وسدنة الملق والزيف والتهريج من أصحاب الاقلام.

أما الراحل العظيم التويجري، فقد احتفظ بموهبته لنفسه لا يدري أحد حتى اقرب المقربين اليه، كيف استطاع ان يكبح جماح هذه الموهبة، وان يسجن هذه القدرة الابداعية في اعماق ذاته. وحتى عندما تكشفت بعض جوانبها ـ قطرة من بحر واسع بلا قرار ـ رفض أن يعرضها على الناس ضنا بها من تأويل المتأولين وتخرصات المتخرصين. ولولا حفنة من أخلص أصدقائه والمقربين إليه، وكلهم يضعونه في حدقات العيون ظلوا يلحون عليه الحاحاً فوق احتمال البشر، لظلت هذه الموهبة قابعة في غيابات الذات، ولما قدر لها أن ترى النور.

وفي لندن تعرفت بمعالي التويجري، سمعت عنه كثيرا قبل ذلك من نفر من الأدباء، وحدثني عنه باستفاضة صديقي الروائي الكبير الطيب صالح. حدثني عن أدبه في انبهار ما لمسته فيه من قبل. وهو الأديب الذي تفتحت عيناه على آداب شكسبير وروسو وموبسان والجاحظ وامرئ القيس والمتنبئ وشوقي وطه حسين والعقاد. حدثني بعد ان اطلع على بعض ما كتبه الشيخ التويجري في بعض رسائله. حدثني عن اصالته ورصانته وفكره المضيء في اعجاب كمن يتحدث عن معجزة، وفي فرحة كمن وقع على كنز، وما كان صاحبي ممن يلقي القول على عواهنه.

وحين ساقني القدر اليه ذات صباح ممطر في لندن، بدأت تتضح امام عيني شيئا فشيئا اسباب هذا الانبهار. وجدتني فجاة في حضرة موهبة طبيعية فذة، توشك ان تكون غريزة مطبوعة، فهي ليست صدى لقراءات أو ظلا لمؤثرات تطل برأسها من وراء أرفف المكتبات المغبرة، فهي موهبة تعب من نفس النبع الطبيعي الأصيل، الذي عب منه كبار شعرائنا وكتابنا كأمرئ القيس والنابغة والجاحظ، ففي صوره وأخيلته ومنحى تعبيره وتفكيره نكهة الصحراء وروح الصحراء في اصالة ما ظننتها ممكنة في هذا العصر: اصالة مرتبطة بالأرض دون ان يعوقها هذا الارتباط عن التحليق في اجواز الفضاء. وأدركت ما كان يكرره شيخنا الراحل في تواضع لا يخلو من اعتزاز انه تخرج من مدرسة الحياة. ما لم يقله، ان الحياة قد كشفت له عن اسرارها وخباياها، وعلمته اسماءها وكان ذلك مصدر نبوغه وتفرده.

واجهتني هذه الموهبة الفذة منذ اللحظة الاولى، حين جلس يملي على جليسه كلمات إهداء لشخصي تموج بتساؤلات عميقة عن الكون والوجود ورسالة الإنسان. وكانت كلماته تنساب في اقتدار ووضوح رؤية، كما لو كان يقرأ من كتاب مفتوح. وعندما ذهبت بعد ذلك مدفوعا بحب الاستطلاع لأقرأ بعض الذي كتب، تملكني الذهول والعجب. وقرأت وأعدت الذي قرأت وازداد العجب: العجب ان تظل هذه القدرة الإبداعية حبيسة عبر كل تلك الاعوام الطويلة. كيف لم تنفجر وتحطم امامها كل سدود الحذر والشك والحياء لتغمر الجبال وتسيل في الصحاري والوديان التي نضبت وجفت من كثرة ما ترسب فيها من هذر أجوف؟ كيف لم تتمرد على قيود التواضع والكبرياء التي حبستها كل هذه السنين؟

ولست أدعي لما اكتب غير انه مجرد انطباعات في خضم الاحساس بالفجيعة والفقد، فلم يكن الراحل المغفور له بإذن الله الشيخ عبد العزيز التويجري، مجرد انسان موهوب، بل كان نموذجاً من نماذج العطاء الذي يرفض أن يعلن عن نفسه في عالم مليء بالصخب والضوضاء واللافتات المضيئة. هذا العطاء يحتاج الى أكثر من كلمات التأبين، وهو ما نرجو أن نتفرغ له في لحظات قادمة ان شاء الله.

رحم الله فقيد الأمة الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري، وجعلنا على الأقل أهلاً لنتأمل ما تركه لنا من فكر وإبداع. والعزاء لابنه صاحب المعالي الشيخ عبد المحسن وإخوته الابرار، الذين أصبحوا لنا بفضله ورعايته أخوة وأحبة وأشقاء.

* كاتب وأديب سوداني