في جنان الخلد وخلد الجنان.. يا أبا عبد المحسن

TT

ليس هذا رثاء بل وفاء مبرأ من الطائل والرياء، دافعه الصدق وباعثه ذكرى جميلة وإخلاص لا يعلم كنهه إلا علاّم الغيوب.

أو كما قال الشاعر:

دعوا تلك القلوب لمن يراها ويعلم غيبَها وكفى مراء..

ضمنته أحداثَ ما جرى فرأيت في تسجيله ما قد يفيد، وأنا لا أقولها فخراً لي بل افتخاراً بها. هي بعض ما أحتفظ به من وديعة للراحل الأثير.

في صيف 1997م وقع نظري على كتاب «لسراة الليل هتف الصباح» فاستهواني عنوانه. فتصفحته وعجمته ونقرت عن ولجته، وميزت جيده ووقفت على ما فيه خير الوقوف، فوجدت في بعضه مادة استبهمت فيها مشابهات الأمور واختلطت تفاصيل معالمها، فعزمت أن أنعشها من عثارها وأنفض غبار اللبس عن معانيها لتخرج من ظلمات الغموض فيجلو ويظهر مكنونها لما فيه فائدة لمادة التوثيق.

ولم أكن اعرف المؤلف ولم يسبق أن قرأت له شيئاً، لكنني قرأت وسمعت عنه الكثير. وتم لي ذلك في خريف السنة ذاتها، فكتبت رسالة طويلة أحاطت في ما يتعلق بأمور جاء ذكرها واختصت بنسب أسرتي وتاريخها، وبأحداث لشخصيات أخرى كنت على معرفة واطلاع تامين بها. ولم تكن عبارات ما سطّرته مجاملة من يطلب التعرف أو مواربة من يريد التزلف، بل كانت صريحة لا لف فيها. وهي حالة ربما لا تعجب من تورّمت لديهم الذات والأوداج وما أكثرهم بين ظهرانينا، وأذكر من عباراتها «فإن بلغت المراد فيكم فذاك، وإلا فلست أول سارٍ غره قمر»، وضمنتها أبيات راثي الأندلس:

لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغرّ بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دول من سرّه زمن ساءته أزمان

واستودعت الرسالة بريدياً وبها وثائق وأسانيد وانتهى الأمر بالنسبة لي آنذاك. وما قدّرت شيئاً للنتائج ولا خلتها أو ظننتها ستكون بداية لصداقة متينة العرى، قويمة المبدأ، امتد تواصلها عقداً من الزمن، حتى أزمته الأخيرة، ثم رحيله الى جوار من استأثر به.

وبعد أسبوع أو يزيد وصلني ببريد خاص طرد فيه رسالة طويلة خلتها بحثاً امتد على صفحات تقطر رقة وتنثني اعتذاراً وتطفح إشادة. ومنها أتذكر قوله (رحمه الله): «فما أنا خريج معاهد أو محترف كتابة ولا بالمؤرخ، بل أنا حامل بريد...». وما أفضى من ذلك إليه الحديث. فأكبرت في الرجل تواضعه ونأيه عن مذاهب العُجب لا يحدوه حادي الخيلاء ولا يثني أعطافه الزهو... فهضمت له نفسي. وتفرقنا كل تحت كوكب. ولم يعد للأمر حسبان.

ولكن، في أمسية يوم صيف لندني بينما أنا متجه الى مكتبة «هاتشارد» العريقة بشارع بيكاديللي، وفي شارع مؤد لها، لمحت ثلة مقبلة مختلفة من الرجال تمشي الهوينا خلف شيخ ربع ذي ملامح عربية أصيلة يرتدي الملابس الإفرنجية.

لم أميّزه في الوهلة الأولى، ولكن عندما دقّقت فيه النظر تأكدت انه عبد العزيز التويجري، وكنا على رصيف واحد وجهاً لوجه. فاستكثرت ألا أحييه وكان قد بلغني انه كان قد خضع لطارئ صحي انتهى بعملية جراحية خطرة. فاهتبلت المناسبة، وتقدمت منه مصافحاً متحمداً له بالسلامة معلنا اسمي.

وما أن بلغ اسمي مسامعه حتى قبض على يدي الممتدة له بشدة وحفاوة مغيراً اتجاه سيره ومبادراً بابتسامة وجه طليق، ومازحاً بقوله: «إنت مقبوض عليك اليوم».

واستمر بالسير راجعاً متشبثاً بيدي على الرغم من معارضة شخص من الثلة اتضح لي لاحقاً انه طبيبه الخاص، وأنهم كانوا في رياضة يومية هي جزء من برنامج العلاج.

ولكن أبا عبد المحسن لم يكترث لإرشادات الطبيب، أو لصحته، فهو في ذلك حجر صلد لا يلين. فأخذني ممسكاً بيدي طوال وقت مسيرنا الى أن وصلنا لمقر إقامته في فندق «الميريديان» قرب ميدان بيكاديللي. وكان له فيه مجلس يومي حافل حاشد أشبه بـ«سوق عكاظ»، بل قل «المربد» يؤمه المحبون والمريدون من كل قطر ومشرب.

وما أن شاهد الجمع الشيخ وهو ممسك بيدي حتى أصابتهم الدهشة لرجوعه السريع وقد اعتادوا على انتظاره لفترة قد تمتد ساعة أو تزيد. وعندما أجلسني على كرسيه اشرأبت الرقاب نحوي محاولة معرفة شخصي فأنا لست من «الوجوه المألوفة» عند هؤلاء، ولبعض الناس درجات مختلفة في الفضول وحب الاستطلاع، وإن كانت حصة الصحفيين «قسمة ضيزى» وفي المجتمع منهم الكثير.

استمر ـ عليه الرحمة ـ بالترحيب والاهتمام بضيافتي، مكرساً حديثه وسؤاله لي، مغدقاً في المديح بأسرتي وتاريخها، فأخجلني كلامه وطوقني لطفه وأريحيته ورقيق مشاعره، ووجدته ثاقب البصر، عميق الحوار، حصيف العقدة جمّاعا للقوم، لكنه يفصل بين الماء واللبن.

وبعد سويعة وتحت إصرار مني بالاستئذان والانصراف، وافق بتلكؤ ولم «يطلق سراحي» إلا حين وعدته بزيارة قريبة.

وجدت في تلك الأمسية وما بعدها، وخبرت الأمر علاماته ورسومه وأماراته لرجل عالي الهمة، فكه الأخلاق، محمود الخلطة، لا يشاري ولا يماري.. مظنة للخير، ومعلم له، ومخلقة اليه.. مواسٍ، مصافٍ، شهيّ المجادلة، ثاقب، بازل، مختمر، بعيد الغور، عميق الحور، ذي قوة نادرة في الذاكرة.. يذلل العقاب ويروض الصعاب، فأثار بي الإعجاب بهذه الندرة من الرجال.

ولذا يكون من تمام الحديث أن نتعرف على نتف لهذه الشخصية العصامية المميزة، فإن في ذلك فائدة لمن يريد الوقوف على تاريخه ومتعة لمن يعرفه.

ـ ولد قبيل الحرب العالمية الأولى في حوطة سدير وعاش صباه ومقتبل شبابه في المجمعة من أسرة محسوبة الولاء لآل سعود وخاصة للملك عبد العزيز (رحمه الله).

ـ هاجر أبوه الى الزبير نتيجة أوضاع صعبة آنذاك، ثم رجع الى المجمعة فولاه الملك عبد العزيز بيت المال في سدير.

ـ توفي والده وهو طفل ويذكر عنه بعد ذلك الحادث المفجع انه كان ينام ومعه العصا «ليطرد فيها الموت» حسب قوله.

ـ تعلقه بالمتنبي ابتدأ وعمره لا يتجاوز الثالثة عشرة، وسببه بيت الشعر المشهور، وربما كان فيها لذكر الموت الذي يخافه سبب:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا

كان يرددها كهل يقرأ كتاباً ويجلس على حافة وادٍ خارج المجمعة، وكان الصبي يرتاد العزلة ويعكف ارتياد كهف ينام فيه. وقد تعلم على ذلك الكهل القراءة والكتابة، وتلقف أشعار المتنبي منه فكانت علاقة طويلة توجها بكتاب عنه هو «أثر المتنبي بين اليمامة والدهناء» (المكتب المصري الحديث ـ القاهرة 1979م)، وبعد ذلك بالمعرّي الذي لحقه بـ «ابا العلاء ضجر الركب من عناء الطريق» (دار الفرزدق ـ الرياض 1990م).

ـ تطوع في جيش الملك عبد العزيز المتجه الى اليمن بقيادة الأمير محمد بن عبد العزيز الذي وصل اليها عام 1931م، ولكنه لم يشترك بالمعارك لانتهاء حالة الخلاف.

ـ رجع الى المجمعة وكاد ان يتبع ما فعله والده قبله بالهجرة الى الزبير، ولكن زميلا له زيّن له الذهاب الى الرياض والتماس الملك عبد العزيز لتدبير أمره فتم ذلك. فرجع مديراً لبيت المال في المجمعة عام 1938م بدلاً من أخيه الذي نقل الى القصيم. ومن هنا ابتدأ تاريخ خدمته العامة في الدولة، والتي شارفت على سبعين سنة من العمل المتواصل المخلص الدؤوب لمن ولاه ولأنجاله من بعده. وكان الأقرب إلى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز.. وأسعد الملوك من كان له وزير صدق إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه.

ـ عصامي عَلّم نفسه وهو يدرك أن وثيق العلم خير من كثير المال، فالعلم حاكم حارس والمال محروس محكوم عليه.

ـ على الرغم من غزارة إنتاجه في فترة قصيرة اتهمه مشككون «بأنه يستكتب ولا يمكن أن تكون هذه الكتب من تأليفه». وكثرت مقولة «أنت تكتب أو يكتب لك؟!!». ولم تثن هذه الترّهات عزيمته فواصل المشوار. ولما عرفوه عن قرب بلعوا ألسنتهم، واستمر في التأليف الى أن برحت به الحمى، وتمكن منه المرض حتى أنهكه. ولكل شيء نهايته ويبقى الأثر ما بقي الدهر.

ـ أحب وطنه وأخلص له واقترن اسمه بمعلمين شامخين هما الحرس الوطني ومهرجان الجنادرية، فأفنى عمره طاقة وعملاً وخبرةً وولاء، فهو الشديد بغير عنف واللين في غير ضعف.

ـ رقيق المشاعر يهزّه جيد الشعر ويشجيه جميل المعاني ويجذله بليغ الكلام، يسمع الموسيقى ويطرب لأنغام الربابة التي تستهويه ويعزف عليها.

ـ صاهر وأصهر كثيراً فله من الأبناء ستة ومن البنات تسع من الذرية الصالحة.

ذلك هو الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري الذي غمرني بلطفه وأفاضني بكرمه، وأخجلني بتواضعه. وهو الذي كان يأبى إلا أن يزورني في غرفتي عند حلولي في الرياض مرتين. ويتكلف عناء ملاقاتي ببهو الفندق الذي يقيم فيه في لندن، ويرفض أن أزوره في غرفته وهو الشيخ العرنين وان كان يصحبه طبيبه الخاص كما حدث في آخر لقاء شخصي به قبل سنتين في «لانغام اوتيل» وأنا في عمر أبنائه.

لقد تمتعت وتشرفت بتلك الوفادة والصداقة والمودة، والمشايخ أشجار الوقار وينابيع الأخبار، لا يطيش لهم سهم ولا يسقط لهم وهم، أفادتهم الأيام حنكة وتجربة.. وهل يشقى بقعقاع جليس.

لقد توجعت عليه أينما وجد ذكر للدواء وللأسي وللألم، حينما ابتلي بصحته فصبر واعتبر ولم يضجر..

والآن فان إرادة الله قد حقت فلا اعتراض على حكمه ولا راد لأمره.

حزنت «وما رأيت الله قد جعل الحزن عاراً على وجه يعقوب». ولكن أعظم المصائب الانقطاع، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

وما الدار والأيام إلا كما ترى رزية حالٍ أو فراق حبيبِ

ومن رثاءٍ لعبد الله بن مسعود «رضي الله عنه» أستعير هذه العبارة الموغلة بالأحاسيس.

«ولئن فاتتني الصلاة عليك، فلا فاتني حسن الثناء فيك».

فإلى نعيم مقيم يا أبا عبد المحسن

* رجل أعمال ومثقف كويتي