تقصي الحقيقة واجب الوقت

TT

قرار وزراء الخارجية العرب بتشكيل لجنة لتقصِّي حقيقة ما جرى في غزة هو أحد القرارات الحكيمة، التي تستحق ان نتمسك بها ونعضَّ عليها بالنواجذ في اللحظة الراهنة، لأن حجم التناقض في المعلومات الصادرة عن الجانبين كبير الى الحد الذي يدعو أي عاقل إلى ضرورة التوقف والتروي وعدم الانجرار في هذا الجانب أو ذاك، إلا بعد أن تتضح الحقائق الأساسية في المشهد على الأقل. لذلك، فإن تسرع بعض العواصم العربية في التحيز لموقف دون آخر، يعد خطأ جسيماً، يزيد من تعقيد الامور ولا يساعد على تهدئتها، فضلاً عن حلها بطبيعة الحال.

ومن أسف، أن ذلك التميز كان أشدَّ وضوحاً في أغلب المعالجات الإعلامية، التي سقط بعضها في فخ الدعايات الاسرائيلية، بينما تماهَى البعض الآخر بشكل مثير للدهشة مع تلك الدعايات.

لقد كان أحد الدروس المهمة التي تعلمناها في عالم السياسة، أنه إذا امتدحك عدوُّك في لحظة ما، أو إذا اكتشفت أنك تقف معه في مربع واحد في لحظة اخرى، فاعلم أنك تنزلق في الاتجاه الغلط، وهذا بالضبط ما حدث في المشهد الفلسطيني، حيث أننا واجهنا فيها تلك اللحظة التي سارع فيها كل الخصوم الى مساندة طرف ضد طرف آخر، كما اننا اكتشفنا ما هو أكثر، حيث وجدنا أن أغلب العواصم العربية تقف مع أولئك الخصوم في جبهة واحدة، ساندت طرفاً فلسطينياً ضد آخر، الأمر الذي أعاد إلى الأذهان مشهداً محزناً مماثلاً تكررت فيه الوقفة ذاتها، حين اجتمع الخصوم التاريخيون مع أغلب العواصم العربية على مقاطعة الحكومة الفلسطينية المنتخبة، أو حصار وتجويع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

ان المرء لا يكاد يصدق ذلك التوافق المدهش الذي حدث خلال الأيام الماضية مثلاً بين بعض الصحف العربية والاسرائيلية، ذلك ان الاعلام الاسرائيلي هو الذي أطلق على قطاع غزة وصف «حماسستان»، وروج للادعاءات بأنها سوف تستنسخ نظام طالبان، وهو الذي لم يكف عن وصف حركة حماس بانها منظمة إرهابية، وان الإجراءات التي اتخذتها كانت بمثابة انقلاب على السلطة، يستهدف اقامة إمارة إسلامية على حدود مصر، تهدد بقية الدول العربية، وهو خطاب لا نستغربه من اسرائيل، بل نعده تعبيراً طبيعياً عن مواقفها وخبث مقاصدها، لكن ما نستغربه حقاً ان يتبنى الاعلام العربي الخطاب ذاته ويروج المفردات والمصطلحات ذاتها، الأمر الذي كان له دوره في إشاعة البلبلة والالتباس، لذلك كان من المهم للغاية ان يتم تحرِّي حقائق ما جرى، بحيث توضع الاحداث في اطارها الصحيح، ولكي توزن الأمور بميزان المصلحة الفلسطينية العليا والعربية، وليس المصلحة الاسرائيلية او الامريكية، وهو المحظور الذي وقعنا فيه للأسف، حتى صار اعلامنا العربي في أغلب منابره وقنواته، يردد نشيداً واحداً على إيقاع معزوفة يتحكم فيها الأعداء التاريخيون لفلسطين والعرب.

ان ثمة حديثا متواتراً الآن عن ضرورة الوقوف الى جانب الشرعية الفلسطينية، وهو حديث مبتسر لا يخلو من نفاق، هو مبتسر لأن في فلسطين شرعيتين لا شرعية واحدة، فرئيس السلطة له شرعيته المستمدة من انتخابات الأغلبية له، والحكومة ايضاً لها شرعيتها لأنها منتخبة بدورها من قبل أغلبية الشعب، ثم انه حديث مشوب بالنفاق لأن الشرعيتين كانتا على وفاق نسبي في ظل حكومة الوحدة الوطنية، التي تشكلت بعد اتفاق مكة لكن ذلك لم يلق قبولاً، ولم يشفع لهما فاستمرت المقاطعة، الأمر الذي يدل على ان العنصر الحاكم في تحديد المواقف ليس الشرعية المستمدة من تأييد الاغلبية، وانما هو الهوى السياسي وموازين القوى بالدرجة الاولى، حيث إن شرعيتك يُعترف بها في حالة واحدة، هي ما اذا كانت رؤيتك السياسية محل رضا من جانب الاسرائيليين والامريكيين. وتزداد شرعيتك بالتالي بقدر انصياعك وتجاوبك مع منطلقات ومخططات هذين الطرفين تحديداً.

ثمة حديث آخر لا يغادر مربع النفاق عن الضرر الذي لحق بالقضية الفلسطينية من جراء ما حدث في غزة. ورغم أن ما جرى يدمي القلب ويحز في كل النفوس، الا أن القضية الفلسطينية كانت مجمدة، بل كانت في تراجع مستمر بسبب اقامة السور والتوسع في الاستيطان وتغيير الحقائق على الأرض، قبل وقوع الاحداث بزمن غير قصير، الأمر الذي يدعونا الى التساؤل عن ماهية «التقدم» في القضية الذي أوقفته تلك الاحداث. واذا كان الاسرائيليون والامريكيون قد لوحوا في احتفالهم بحكومة الطوارئ بإمكانية مواصلة مسيرة السلام، والتي يعرف الجميع ما حققته حتى الآن لصالح اسرائيل، فان مثل هذا التلويح لا يمكن اعتباره مكسبا للقضية، بقدر ما إنه جهد دعائي فارغ المضمون يصب في مجرى تمييع القضية وإشغال الناس ببعض عناوينها، من دون تحقيق انجاز يذكر على الارض، يحقق مصلحة للفلسطينيين، إلا اذا كنا قد اعتبرنا ان هدف المسيرة السلمية الآن لا يتجاوز حدود فك الحصار وتحويل الاموال المجمدة لدى الاسرائيليين، واستعادة رضا الرباعية والأمريكيين والإسرائيليين عن الحكومة الفلسطينية.

ان قائمة الحقائق التي يتعين استجلاؤها طويلة. ولأن الحيز لا يتيح لي ان أعرض ما عندي بصددها، فانني سأقتصر على إيراد أهمها من خلال مجموعة من الاسئلة هي:

* هل الذي حدث في غزة انقلاب ام أنه كان تصرفاً من الحكومة الشرعية لإجهاض انقلاب ضدها؟ ذلك ان المعلومات الموثقة تشير إلى أن أبو مازن أبلغ في 10 يناير (كانون الثاني) بأنه «توافرت لدينا بعض المعلومات في الآونة الاخيرة تشير الى خطة أمنية تهدف إلى الانقلاب على الحكومة والخيار الديمقراطي للشعب الفلسطيني».

* هل كان الذي حدث صراعاً على السلطة ورئيسها ابومازن، ام أنه كان إجراء من جانب الحكومة استهدف بسط سلطاتها على القطاع، ومحاولة التخلص من مراكز القوى التي وقفت وراء الفلتان الأمني وزعزعة الاستقرار فيه، وهي المراكز التي احتمت برئيس السلطة، وتحدته في بعض الاحيان، حيث رفضت تنفيذ الخطة الامنية التي تم التوافق عليها. وهي ذاتها التي افشلت مهمة ثلاثة وزراء للداخلية بدءاً من اللواء نصر يوسف، الذي كان فتحاوياً، ومروراً بسعيد صيام الذي كان من قيادات حماس، وانتهاء بهاني القواسمي الذي كان مستقلاً. أليس هذا الذي فعلته حكومة هنية هو ما يجب ان تفعله اي حكومة اخرى في اي بلد عربي، بعدما يتم إفشال كل محاولاتها السلمية لانهاء الفوضى في البلاد.

* هل صحيح انه صدام بين حماس وفتح، ام انه مواجهة بين الحكومة ومجموعة من قادة المليشيات اصحاب المصالح الخاصة، الذين لهم ارتباطات اقليمية وعلاقات مع اطراف هي مناهضة او معادية للمقاومة الفلسطينية والمصالح العليا للشعب الفلسطيني. وهذه الاطراف، اختطفت فتح واستغلت جماهيرها واستثمرت نضالها؛ ومنهم من لا علاقة له بفتح اصلاً، في حين ان الوطنيين والشرفاء في فتح اخذوا جانباً واحتفظوا بموقف مستقل، لا يؤيد هذه المجموعة؟

أليس هذا الذي جرى هو ما سعت اليه اسرائيل والولايات المتحدة والرباعية، من خلال ضغوط الحصار والتجويع التي استمرت طوال ستة عشر شهراً؟. ألم يكن تفجير الوضع الفلسطيني هدفاً اصرت عليه تلك الجهات، وتعجلت حدوثه، حتى بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية؟

* ما حقيقة الدور الذي قامت به بعض الدول العربية في زيادة الاحتقان في داخل القطاع، من خلال دعم موقف الاجهزة الامنية المقاومة للحكومة، وتزويدها بالسلاح وتدريبها، وتسهيل مرور كافة احتياجات الانتشار والمواجهة الاخرى. وفي حدود علمي، فان موضوع التدريب أثير في اجتماع مع بعض المسؤولين الأمنيين لإحدى الدول العربية، فكان الرد ان التدريب كان لصالح تعزيز قوة العناصر الفلسطينية المرابطة على المعابر، ولم يكن ذلك صحيحاً، لان العناصر المذكورة جرى تدريبها على قتال الشوارع، وهي مهمة ليست مطلوبة في حراسة المعابر. وقال لي القيادي الفلسطيني الذي حضر الاجتماع انه كتم هذه المعلومة ولم يذكرها، حتى لا يحرج المسؤول الامني الكبير أمام الجالسين.

هل صحيح ان بعض الدول العربية حرصت طوال الوقت على تخريب اتفاق مكة، أو لم تعمل على إنجاحه، لأنها اعتبرته عدواناً على حصتها في القضية، ومن ثم فانها قبلت به في البداية، لكنها لم تضع ثقلاً يذكر الى جانب البناء فوقه وتفعيله على أرض الواقع؟

* اين ذهبت توصيات لقاء الفصائل بالقاهرة، الذي تم في شهر مارس (آذار) عام 2005 والتي قررت تعيين لجنة فلسطينية عليا لتفعيل منظمة التحرير واعادة تشكيل المجلس الوطني؟ ومن المسؤول عن تعطيل تنفيذ هذه القرارات لأكثر من سنتين، رغم انها كانت تنص على عقد اجتماع شهري لتلك اللجنة العليا؟ ألم يكن من شأن المضي في هذا الاتجاه أن يجتمع شمل الصف الفلسطيني، على نحو يجمع الفصائل حول الأهداف العليا للقضية، بدلاً من ذلك الصراع السقيم على السلطة في غزة.

ان المرء حين يطالع المشهد الفلسطيني عن بعد يجد أن له عناصر جوهرية وأخرى ثانوية. ومن أسف أن الإعلام الساعي إلى الإثارة عادة ما يجد ضالته في العناصر الثانوية، فيسلط اضواءه القوية عليها، وقد تصيدت بعض وسائل الاعلام وأبرزت تصرفاتٍ عدة لرجال القوة التنفيذية وعناصر حماس اثناء المواجهات المسلحة؛ كانت مسيئة وموغلة في الخطأ، وعبر فيها اصحابها عن الانفعال والانتشاء اكثر مما عبروا عن الثقة والمسوؤلية. من ذلك مثلاً، انزال العلم الفلسطيني من فوق بعض المباني واستبدال علم حماس به (وهو الوضع الذي جرى تصحيحه بسرعة). من ذلك ايضاً، اقتحام مكتب ابو مازن ورمي صوره، واحراق بعض المقار التابعة للسلطة، وتصفية احد الاشخاص المنسوبين الى فتح، ممن كانوا يشرفون على عمليات التعذيب والقمع. من ذلك ايضاً التصريحات التي ترددت على ألسنة البعض وقيل فيها إن ما جرى بمثابة تحريرٍ ثانٍ لغزة، او انه يشبه فتح مكة، أو انه يشكل هزيمة للعلمانيين.. الخ.

لقد ادى التركيز على هذه الأخطاء إلى صرف الانتباه عن الحقائق الاساسية في المشهد، الأمر الذي أسهم في البلية والالتباس، فهل يُقدر للجنة تقصِّي الحقائق أن تباشر مهمتها حتى تتيح لنا ان نفهم ما جرى بالضبط؟