العودة إلى نقطة البداية!

TT

المشهد العربي لا يسر عدوا أو حبيبا، وما تصورناه بارقة أمل في الحالة العراقية ما لبث أن أظلمت الدنيا كلها حولها بعد تدمير المراقد والمساجد والحسينيات والزرع والضرع؛ وما تخيلناه حالة جمود لبنانية بين قوى الحكم والمعارضة، والموالاة والممانعة، ما لبث أن انكسر مع ظهور جماعات «فتح الإسلام» و« جند الشام» واقتتالها مع الجيش اللبناني ثم اغتيال النائب وليد بن عيدو؛ وما حلمنا به أن يكون اتفاق مكة بين فتح وحماس وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية بداية لتوافق فلسطيني حول إدارة البلاد والتعامل مع إسرائيل، انتهى بأن قامت حماس بفتح غزة وجعلتها أمرا موازيا لفتح مكة بعد تصفية قيادات «شهداء الاقصى».

وما جرى في العراق ولبنان وفلسطين كانت هناك مشاهد مماثلة منه في الصومال والسودان، وكلها يجمعها رباط واحد وهو وجود هجمة أصولية «إسلامية» متعصبة بالسلاح والسياسة والدعاية على الدول العربية وسلطاتها السياسية وتحويلها إلى إمارات يتسيدها الملثمون والمقنعات.

والمشهد بمثل هذه الصورة الدموية والمأساوية لا يزال في بداياته الأولى، وهناك زخم وغضب وحماس يكفي سنوات قادمة من الصراع والحرب والاقتتال والانتحار والاستشهاد؛ وما عليك سوى مراقبة تصريحات الجماعات المتحاربة على كثرتها حتى تكتشف المعاني الجديدة للنصر والخيانة. أما تفاصيل الحجج والحجج المضادة التى يقدمها كل طرف فربما لا تعني الكثير لأن الجميع اتفق على تصفية كل طرف للأطراف الأخرى، ولما كان ذلك على الأرجح مستحيلا فإن وقتا طويلا سوف يمر قبل اكتشاف هذا الأمر، وكما هو معلوم فإن لكل وقت ثمن من الأرواح والدماء.

والحقيقة أنه من الصعب والدماء ساخنة على هذا النحو التوصل إلى جوهر المأساة الراهنة، ولكن المؤكد أن هناك خطأ جوهريا قد جرى في بناء هذه الأمة منذ خرجت على العالم في شكل الدولة العربية المعاصرة. هذا الخطأ ربما يمكن رده إلى أمرين: أولهما نوع الاستبداد الذي عاشته الأمة طوال تاريخها الحديث؛ وثانيهما نوع البشر الذي أنتجته الدولة العربية المعاصرة. وفي الأمر الأول فإن الاستبداد العربي لم يكن من تلك النوعية في العالم التي تحضر شعوبها للتقدم، بل وللديمقراطية كما جرى في إسبانيا والبرتغال وكوريا الجنوبية وتايوان وشيلي، بل كانت من تلك النوعية القادرة على إعادة إنتاج نفسها دون تقدم يذكر، والأخطر أنها تنتج معارضة لا تقل عنها استبدادا في الحكم ووحشية في التعامل مع حقوق الإنسان. وفي الأمر الثاني فإن ما أنتجه العالم العربي من نوعيات رديئة من التعليم، وأنواع أكثر رداءة من الإعلام والمعرفة فإنها خلقت هذه النوعية من البشر المسلحين بالبنادق والذين لا يتورعون عن قتل أشقائهم من المواطنين وإلقاء بعضهم مقيدين بعد تعذيبهم من الأدوار العليا للأبنية كما جرى في غزوة غزة غير المباركة الأخيرة.

والحقيقة أنه لا يمكن تفسير تلك الحالة من الانغلاق العقلي، ورفض السياسات العملية والحلول الوسط، لولا سيادة حالة من الجهل الذي لم تبدده الأنظمة التعليمية المختلفة. وربما ليس مدهشا فقط أن العالم العربي لا يزال ذاخرا بنسبة عالية من الأمية تتراوح في دول المنطقة بين 20% و40% وتزيد هذه النسبة بين النساء حيث تصل إلى 43%، ولكن الأكثر إثارة للدهشة فهو تلك النوعية المنخفضة من التعليم الذي يخلق نوعيات من البشر جاهزة كالقطعان للقيادات الديماجوجية والشعبوية تقودها إلى القتل والانتحار. وكل ذلك تولد عن نظرة إلى التعليم والمعرفة بوجه عام لا تضعه ضمن أولويات الدولة العربية التي تغلبت عليها أولويات أخرى لا يقل بعضها عن تغيير العالم!. وعلى سبيل المقارنة فإن النهضة المصرية الحديثة بدأت مع عصر محمد علي عام 1805 بينما بدأت النهضة في اليابان مع عهد « الميجي» عام 1868، ولكن اليابان قضت تماما على الأمية، وخلقت نظاما تعليميا مبهرا مع عام 1906، وفي عام 2007 كان لا يزال هناك 30% من المصريين لا يعرفون القراءة والكتابة.

هذه الكارثة المصرية والعربية أيضا سواء فيما تعلق بالأمية أو بنوعية التعليم أو وضع المعرفة والبحث العلمي تم التركيز عليها خلال الأعوام الأخيرة ولكن كافة الأفكار التي تناولتها وعملت على تجاوزها واجهتها مقاومة عنيفة تتسلح مرة بالخصوصية الثقافية، وتتسلح مرة أخرى بمقاومة الغزو الثقافي الأجنبي، وفي كل الأوقات تشهر الهوية سلاحا لإبقاء الأوضاع التعليمية على ما هي عليه. ومن هنا تأتي أهمية المبادرة التي أعلنها مؤخرا الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات وحاكم دبي لإنشاء مؤسسة للعلم والتعليم والمعرفة في العالم العربي، أي باختصار العودة إلى نقطة البداية في النهضة العربية قبل فوات الأوان، أو حتى لإنقاذ الدول العربية التي لم تنهار بعد من الهجمة الشرسة التي تتعرض لها من قوى التخلف والجهالة. فهذه المبادرة التي رصد لها عشرة مليارات من الدولارات تبدو خارج السياق العربي العام الذي يركز على الحشد والتعبئة التي في ظاهرها مواجهة الأمريكيين والصهاينة، ولكن نهايتها تكون دوما مواجهة العرب والمسلمين. ولكن ربما كان ذلك هو ما يحتاجه العالم العربي في هذه المرحلة بالخروج على سياق لم يقدم للأمة إلا التدمير والفتنة والاقتتال والانتحار وتقديم الموت على الحياة.

ولكن المبادرة لا يجب أن تظل معلقة فى الهواء دون مبادرات أخرى تكملها، وتجعل نوعية العرب ونوعية نظمهم السياسية قادرة على الإدارة الرشيدة لمجتمعاتهم، وإدارة العلاقات مع العالم المعاصر. فالقانون العام للتطور هو ضرورة وجود حجم حرج من المبادرات والمساهمات التي تتعامل مع ساحة واسعة من الأمور المترابطة والمتشابكة في التعليم والصحة والإعلام والبحث العلمي والتقدم الاقتصادي بحيث يخدم ويغذي بعضها بعضا.

وبالإضافة إلى هذا «الحجم الحرج» فلا بد أن يكون فيها استمرارية تستطيع تحقيق القدر الملائم من التراكم الذي يغير ويطور من المجتمعات. وهذه الاستمرارية يمكن تحقيقها أولا من خلال مشاركات أكبر وأوسع من القطاع الخاص والمجتمع المدني؛ وثانيا من خلال اعتبار القضية جزءا لا يتجزأ من عملية بناء الأمن القومي والوطني للبلدان العربية. فبدون العلم والتعليم والرشادة والعقل في العموم، فإن هذه الدول سوف تكون عاجزة عن المنافسة في الخارج كما أنها سوف تكون قابلة للانكسار من الداخل على الطريقة التي نشاهدها في بلدان عربية عديدة.

وفي العادة فإن المبادرات تحقق أقصى نتائجها وعوائدها عندما تتسم بالتركيز الذي يوجهها نحو قطاعات اجتماعية تكون لديها القدرة على القيادة والتحديث والإيمان بقيم الرشادة والعقل والتطور، وباختصار نحو توسيع نطاق الطبقات الوسطى العربية التي انقسمت خلال العقود الماضية بين العسكر في الحكم وأنصار الفتنة في المعارضة، وفي الحالتين تبنت أفكارا مطلقة قسمت المجتمعات ومنعتها من التطور. تصحيح هذا التوجه من خلال التعليم والبحث العلمي ونشر المعرفة في العموم إذا ما توفر له الحجم الملائم والاستمرارية المعقولة يمكنها أن تصل من جديد ما انقطع من قبل منذ عصر النهضة العربية في منتصف القرن التاسع عشر وحتى ظهور الانقلابات العسكرية والآيدلوجيات القومية مع منتصف القرن العشرين التي قادت البلاد والعباد إلى ما وصلنا إليه اليوم. وما وصلنا له اليوم مؤسف ومحزن للغاية !!.