دولة التجربة الوئامية

TT

مضت ثلاثة عقود على عودة الديموقراطية إلى إسبانيا بعد أربعة عقود من ديكتاتورية فرانكو. وقد كانت العلاقة غريبة حقا بين المرحلتين المتناقضتين. والسبب أن فرانكو كان ديكتاتورا، لكنه أحب إسبانيا. فلما حان الوقت وذهب، لم تذهب إسبانيا معه. على العكس. هو الذي أعاد ملكها قبل أن يموت. وهو الذي حافظ على تراثها. وقد كانت له قبضة ضيقة، لكنها لم تخنق أحدا. كانت قبضة ضيقة، لكنها لم تكن قبضة خانقة. والكثير مما تتمتع به إسبانيا اليوم، بدأه فرانكو. الصناعات الكبرى ومؤسسات السياحة وسواها. لم يبن إسبانيا لنفسه، تتفكك بمجرد ذهابه، بل بنى إسبانيا للإسبان. صحيح انه جردهم من حرياتهم ومن صحفهم وحتى من شعرائهم، لكنه لم يركب البلد على مقياسه وحده. وهكذا غاب فلم يحدث في مدريد ما حدث في بغداد، بل تحول التغير في إسبانيا إلى قدوة للمصالحات الوطنية. نلسون مانديلا كان يفكر في إسبانيا عندما تسلم الحكم. وهلموت كول كان يفكر في إسبانيا عندما وحّد ألمانيا دون ضربة كف. الأسود المستعبد في جنوب أفريقيا والأبيض المستعمر. وفي ألمانيا الألماني الغربي الرأسمالي والألماني الشرقي الشيوعي. وها هم يتعانقون. فالمهم هو البلد. هو الوطن. وقد كان في إمكان فرانكو كطاغية أن يذهب ويأخذ إسبانيا معه، لكنه ترك إسبانيا للإسبان. أدرك أنه مجرد مرحلة لزمن ما وأن مرحلة أخرى سوف تأتي بعده ولم يكن في ذلك ديكتاتورا مستنيرا أو مستبدا عادلا. فليس هناك ديكتاتور مستنير ولا هناك مستبد عادل. ولكنه كان مواطنا ذا ضمير. إسبانيا للإسبان وليست له. والملك لأهل الملك وليس له.

الديكتاتوريات العربية مركبة بحيث إذا زالت زال معها البلد وليس الحكم. والأنظمة تسقط فينهار الوطن وتقوم الحروب الأهلية ويتفتت التراب. أو ما بقي منه. ولذلك يتكرر ضياع فلسطين في فلسطين. أو ينهار العراق برمته لمجرد سقوط النظام. ولذلك لا يجتمع لبنان إلا في البيانات المتكاذبة والجنازات المزيفة المشاركة.

أحب فرانكو إسبانيا. وأيد العرب. ومات دون أن يعترف بإسرائيل. مسكين الجنرال فرانكو. فليس هناك إلا عرب قلائل يعرفون أنه الحاكم الوحيد الذي مات دون أن يعترف بإسرائيل. وقد كوفئت إسبانيا بتفجيرات مدريد. ولكن عربا آخرين اختاروا إسبانيا واستظلوا الأندلس. وتذكروا بمحبة مرحلة حلوة من تاريخ شديد التعقيد.