قواعد للأميركيين تلي انسحابهم المبكر من العراق

TT

ما جرى في غزة بعد «الانتصار الحماسي» من سرق ونهب، كان صورة مكررة لما حدث في بغداد بعد دخول القوات الأميركية إليها. ان القوات «الغازية» تُخرج دائماً أسوأ طبائع البشر فيتحولون الى السرقة والنهب والانتقام.

ما الذي أقدمت عليه «حماس»؟ هي تغنت بأنها وصلت الى السلطة بالطريقة الديموقراطية، لكن بعد 16 شهراً اسقطت القناع عن وجهها، ولجأت الى السلاح ضد «عدوها» الفلسطيني الآخر من اجل التمسك بسلطة، رغم انه ليس هناك من دولة!

وكشفت «حماس» ان كل ما يدّعيه الأصوليون بأنهم مقتنعون باللعبة الديموقراطية، ليس الا خدعة للوصول الى السلطة ومن ثم قلب البلاد رأساً على عقب من اجل تنفيذ مخططاتهم. لقد اعطت «حماس» بعملها الأخير كل الحق للجيش الجزائري الذي ألغى في بداية التسعينات نتائج الانتخابات التي فاز بها الاسلاميون، لأن الحرب كانت ستقع لا محالة في الجزائر، ولو ترك الجيش الجزائري الإسلاميين يحكمون، لكانت الحرب ابشع، ولما كانت انتهت حتى اليوم.

لم تقض «حماس» بأعمالها العسكرية والانتقامية الأخيرة على الفساد الذي ترهل فيه قادة «فتح»، بل هي باختصار قضت على القضية الفلسطينية الوطنية، والنتيجة ان كثيرين من الفلسطينيين رددوا انهم لا يريدون العيش في دولة تحكمها هذه الـ«حماس».

ان ما نتج عن عمليات «حماس» الانتقامية هو كيانان فلسطينيان، اذا صح القول. الأول في غزة، قالت عنه «حماس»، انه «أول كيان اسلامي، وسوف تتورط فيه مصر او يورطها، والثاني في الضفة الغربية الى جانب أغلبية فلسطينية في الاردن، وأقلية فلسطينية في اسرائيل. اما القدس، فإنها لا تظهر على الرادار «الحماسي».

المراقبون السياسيون قالوا انه انتصار سوري ــ إيراني. فسوريا قضت على «اتفاق مكة» ـ الذي لم تكن واشنطن متحمسة له ـ وإيران حققت ما وعدها به خالد مشعل الزعيم الفعلي لـ«حماس» اثناء زيارته الى طهران: «ان العلاقة بين «حماس» وإيران آيلة الى التطور نحو الافضل في المستقبل». لكن، وصول النفوذ الايراني الى غزة، لا يخفف من وجودها الطاغي في العراق، والتطورات في الاراضي الفلسطينية لن تجعل التركيز الاميركي، رغم كل التصريحات، يتحول من العراق الى حل القضية الفلسطينية، وما اعتبرته «حماس» انتصاراً قد يكون المسمار الأخير في نعش القضية الفلسطينية، لذلك اواصل حواري مع المصدر الغربي واسأله عما اذا كانت الاستراتيجية الايرانية تتطلع الى ابعد من العراق، الى البحرين والكويت أو الى الشيعة في السعودية؟ فيقول: «ان هذا المنطق يناسب المعادلة الإيرانية لتصدير الثورة، لكن ايران تعرف جيداً ان أنظمة هذه الدول مستقرة. لكن اذا توفرت لها الفرص لاحقاً فإنها لن تتردد. هي تراهن حالياً على الا يخسر الشيعة في العراق، وتعرف أن الأنظمة في الخليج قوية ولن تسمح للأوضاع لديها بالخروج عن السيطرة، والشيعة في تلك الدول، كما تراهن ايران، سيرون اين وصل الشيعة في العراق فتتكون لديهم افكار وتطلعات، وقد يحاولون. لكنني، كما يضيف محدثي: انا متأكد من ان الأنظمة الخليجية تحكم جيداً السيطرة على الاوضاع الداخلية فيها».

أما عن الاتصالات الأميركية ـ الايرانية فيصفها محدثي بالاتصالات السطحية ودليل على ضعف الاميركيين، اذ يرى الايرانيون ان الاميركيين لا ينجحون في العراق، ولهذا يريدون ضم الموضوع النووي الى الموضوع العراقي في المحادثات، لأن الموضوع النووي هو الأهم لديهم، وكلما شعروا بأن الاميركيين يزدادون ضعفاً في العراق، سيحاولون التأثير بإدخال الملف النووي.

ويشرح محدثي النظرة الأميركية للموضوع، فهم قالوا انهم سيلتقون السوريين والإيرانيين (لقاء كوندوليزا رايس مع وزير الخارجية السوري وليد المعلم في شرم الشيخ)، وقد ظنت سوريا ان اللقاء مخرج لها من قضية اغتيال رفيق الحريري والمحكمة الدولية، وهذا لم يحصل. وتتطلع ايران الى محادثاتها مع اميركا للوصول الى المسألة النووية. لكن حسب اعتقاده فإن الاميركيين لن يوسعوا موضوع المفاوضات الى ابعد من الوضع في العراق، وعندما يدركون ان الايرانيين لم يفعلوا شيئاً «فإنني لست متأكداً من انهم سيستمرون في المفاوضات معهم».

ان حقيقة اجراء المفاوضات كان من عوامل السياسة الداخلية الأميركية، اذ تعرض الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش لضغوط من الكونغرس، وهو بعد اجتماع السفيرين الأميركي والإيراني في العراق ووفديهما يستطيع ان يقول للكونغرس وللرأي العام الأميركي، انه نفذ ما طلب منه داخلياً، لكن الإيرانيين لم يلتزموا بأي كلمة «لذلك يجب الا تتطور الأمور الى ابعد من ذلك»، ويضيف محدثي: «صحيح ان الموافقة على المحادثات اظهرت ضعفاً اميركياً، لكن ليس الى درجة مواصلة المفاوضات». ولا يعتقد ان الأميركيين سيخضعون للابتزاز «هناك حدود لاعتماد الاميركيين على الايرانيين، ففي النهاية اميركا هي القوة العظمى وإيران هي الطرف الضعيف. لقد عقدوا لقاء اولياً ابلغ فيه الاميركيون الايرانيين بضرورة فعل ما عليهم، وحسب اعتقادي انتهى اللقاء وسيبقى من دون متابعة».

وأضاف محدثي: «لنفترض ان الايرانيين قرروا التعاون المطلق وبدأوا غداً المساهمة في استقرار العراق، لست متأكداً ما اذا كان ذلك يكفي، فالاميركيون يدركون ان مشاركة الدول المجاورة للعراق ليست كافية لاستقرار العراق، ان المسألة تعتمد على العراقيين انفسهم، وهناك حدود للتأثير الايراني على الوضع، وبالتالي ليس مهماً اذا ما قدمت ايران المساعدة او لم تقدم، وهي لن تقدم حتى لو ان الاميركيين قدموا تنازلاً معيناً في المسألة النووية، فإن الايرانيين لن يقدموا المساعدة».

وكان احد التقارير اشار الى ان نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني يشجع الرئيس بوش على شن هجوم على ايران في الأشهر الثمانية عشرة المقبلة، ولا يبدو أن محدثي متأكد من الأمر اذ «ليس هناك الكثير مما تكسبه اميركا من مثل هذا الهجوم، تكفيها الفوضى الدموية المتخبطة بها في العراق، ولست متأكداً من الرغبة في التسبب بفوضى مماثلة، ان ضرب ايران ليس بالأمر المنطقي».

من ناحية أخرى، قررت ادارة الرئيس بوش عدم قصف المنشآت النووية الايرانية، اذ انها لا يمكن ان تشرك ايران في استراتيجية خروجها من العراق، وبعد ذلك تقوم بضربها. ويعتبر هذا القرار بمثابة رفض لنداءات اسرائيلية بضرورة اللجوء الى الخيار العسكري ضد ايران. ويبدو ان الذي جعل الرئيس بوش يغير رأيه، هو الرغبة في سحب القوات الأميركية من العراق، اضافة الى تقارير امنية اميركية تقول ان الغارات الجوية لن تدمر كل او اغلب المنشآت النووية الايرانية. والإشارة المخفية لإسرائيل من جراء هذا القرار هي التالي: اذا لم نقصف نحن ايران، فأنت حتماً لن تفعلي ذلك. وتنوي الادارة الاميركية بحث قرار تقليص الوجود العسكري الاميركي في كل الشرق الاوسط، وقد ابلغت هذه النوايا الى دول مجلس التعاون الخليجي وبالذات الى السعودية خلال زيارة وزير الدفاع الاميركي روبرت غيتس في شهر نيسان (ابريل) الماضي.

وحسب خطة الادارة، فإن القوات الاميركية ستبدأ في الانسحاب من العراق مع نهاية هذا العام، وسيكون الانسحاب الاكبر في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام المقبل. وفي الوقت نفسه تضع وزارة الدفاع مسودة خطة للابقاء على وجود عسكري في العراق في 12 قاعدة لسلاح الجو والقوات الخاصة من اجل المحافظة على وحدة الاراضي العراقية، وسيُعتمد الحل الكوري الجنوبي، بمعنى ابقاء قوات اميركية تتمتع بالقدرة على الدفاع داخل قواعد عسكرية محمية بقوة، ولا تتدخل في الصراعات الداخلية.

وفي عودة الى المصدر الغربي، يقول إن الكونغرس الأميركي لن يكون لديه الوقت الا للتحضير للانتخابات الرئاسية. ولكن ماذا عن نوري المالكي وحكومته؟ يقول: ان الحكومة العراقية ضعيفة والمالكي انسان بائس، وهو قال قبل ثلاثة اشهر، لو انه فكر اكثر لما كان وافق على ان يكون رئيساً للحكومة. ويشبهه بالواقع في الفخ، فالأميركيون يضغطون عليه باستمرار، ويفرضون عليه العمل مع السنّة ويشجعون على المصالحة الوطنية ويطلبون منه مواجهة الميليشيات في الوقت الذي يسلحون فيه المقاتلين السنّة، ويهددونه باستبداله. لكن، لا يظن محدثي ان الاميركيين سيقدمون على ذلك. ويواصل شرح معاناة المالكي حيث ان الشيعة يضغطون عليه، وتحالفه لا يدعمه والأكراد لهم تحفظاتهم عليه، كما ان الدول العربية السنية كالسعودية والأردن، يقاطعونه.

ويلفت الى ان الاميركيين سيعيدون تقييم الوضع في شهر ايلول (سبتمبر) المقبل، ولذلك لا يريدون خلق متاعب اضافية لهم، «كلنا نذكر كم شهراً احتاج العراقيون للاتفاق على المالكي، وكل مرحلة من العملية السياسية احتاجت الى اشهر، فهل سيدعون لانتخابات جديدة؟ الكل يعرف ان المالكي رئيس وزراء ضعيف ولا يفي بوعوده، لكن لا احد على استعداد لتحمل مسؤولية تغييره، خصوصاً ان اياد علاوي يحاول باستمرار تشكيل تحالف جديد مع السنّة، ويلعب ورقة وطنية تتجاوز الاثنيات والطوائف، لكنه لم ينجح. حاول السنّة الانضمام اليه، كذلك حزب الفضيلة (المنشق عن مقتدى الصدر) لكن علاوي عجز عن تحقيق اي تقدم، ربما لأنه يمثل الجناح الليبرالي في العراق، وله علاقات قوية مع العرب السنّة، لكن لا اعتقد انه سينجح».

ويضيف محدثي: «ان الموقف السني للدول العربية السنية من المالكي يدفعه اكثر وأكثر الى ايران. ولاحظنا انه قبل مؤتمر شرم الشيخ قال الإيرانيون انهم لن يشاركوا بسبب رفض اميركا الافراج عن المعتقلين الايرانيين الاربعة، عندها شعر العراقيون بالخوف وبدأ المسؤولون في السفر الى طهران لإقناع مسؤوليها بالمشاركة. ويضيف: هناك خلافات بين الشيعة العرب والإيرانيين، والعرب السنّة يخطئون في مواقفهم السلبية. لقد تحدث مثلاً العاهل الاردني الملك عبد الله عن الهلال الشيعي، وهو غير موجود. هناك فقط علاقات قوية ما بين «حزب الله» في لبنان وبعض شيعة العراق مع ايران، لكن اذا استمرت الدول العربية على هذا الموقف السلبي، فإنها تدفع كل شيعة العراق الى الاحضان الايرانية».