من هزيمة يونيو 1967 إلى مأساة العراق: عِبَر ودروس

TT

تعيش الأمة العربية هذه الأيام الذكرى الأربعين لهزيمة الخامس من يونيو 1967. ففي هذا التاريخ، وقبل أربعة عقود من الزمن، خسرت الأمة العربية في غضون ستة أيام الأرض والكرامة. واليوم وبعد مرور أربعين عاماً، ونحن لا نزال نداوي جراحنا من تداعيات وتوابع هزيمة عام 1967، تقف الأمة العربية على أعتاب خسارة جديدة قد توازي وتماثل في نتائجها وويلاتها هزيمة يونيو، وهي تتمثل بعروبة العراق، وضياع هُويته الوطنية، وربما خسارة وزوال الدولة العراقية من الوجود، وذلك في ظل التداعيات التي تلت كارثة الاحتلال الأمريكي للعراق، والتي تتوالى فصولها بصورة يومية.

وما بين هزيمة يونيو وكارثة العراق، حدثت تحولات وتطورات كبيرة، بعضها كانت له آثاره الإيجابية على المنطقة العربية، إلاّ أن كثيراً منها كانت آثاره سلبية، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى استمرار أنماط من الفشل التنموي أو التنمية المشوهة في الوطن العربي، وانكشاف الأمن القومي العربي تجاه كثير من مصادر الخطر والتهديد الداخلية والإقليمية والدولية، وزيادة تدخل بعض الأطراف الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية.

فبالإضافة إلى الصراع العربي ـ الإسرائيلي المستمر حتى الآن، فقد أصبحت دول عربية كثيرة تعاني صراعات اجتماعية ممتدة كما هو الحال بالنسبة للسودان والصومال ولبنان والعراق. وبسبب استمرار تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية والسياسية في العراق، وتصاعد مخاطر تفكك الدولة العراقية، فقد أصبحت المسألة العراقية أحد العناوين البارزة للأزمة العربية الراهنة.

إن المأزق العراقي يزداد تعقيداً وخطورة يوماً بعد يوم. وإذا كان من الممكن تجاوز الأزمة في عامها الأول أو الثاني، فإن عامل التقادم الزمني قاد إلى مزيد من التعقيدات عندما تجاوزت الأزمة عامها الرابع. واليوم، تبدو الأزمة العراقية وكأنها تجاوزت الحل. فقد تشابكت وتصادمت المصالح الشخصية للقيادات السياسية المتناحرة، وتشابكت وتصادمت مصالح الأحزاب والجماعات السياسية، كما تناحرت وتصارعت مصالح أطراف إقليمية ودولية، حتى باتت الدولة العراقية ساحة لتصفية الحسابات. وبشيء من التفصيل، يمكن القول إن العراق يشهد اليوم صراعاً واقتتالاً شيعياً ـ شيعياً، وصراعاً واقتتالاً سنياً ـ سنياً، وحتى كردياً ـ كردياً. وعلى المستوى الآخر، يدور صراع شيعي ـ سني، وصراع عربي ـ كردي. وفي خضم هذه الفوضى، ضاعت البوصلة، ولم تفلح كل الجهود المبذولة في ضبط الأمن وإعادة الاستقرار، وأصبحت الأوضاع أقرب ما تكون إلى الحرب الأهلية.

ومما يكشف عن مأزق العرب وعزلتهم وعجزهم تجاه الأزمة العراقية أن تقوم الولايات المتحدة بتاريخ 28 مايو 2007 بالتفاوض مع إيران حول العراق. وبغض النظر عن خلفيات هذا التفاوض، وبغض النظر كذلك عن الطريقة الأمريكية في إخراجه، فهو يمثل اعترافاً وإقراراً أمريكياً بأن إيران أمست شريكة في تقرير مصير العراق. وتدرك الإدارة الأمريكية أن الشراكة الإيرانية في تقرير مصير العراق، كأي علاقة شراكة أخرى لها أصولها وتبعاتها، وأن القيادة الإيرانية لن تتخلى عن أسهمها في بورصة السياسة العراقية من دون مقابل، ولن تعطي الأمريكيين شيئاً من دون أن تأخذ أشياء في مقابل ذلك.

وأمام هذا الواقع الجديد، يقف العالم العربي عاجزاً ومعزولاً؛ فالعرب لا يمكن أن يثقوا بما يقوله الأمريكيون بصورة دائمة أو بما يَعِدون به، أو بما يقوله الإيرانيون، والذي هو أقرب إلى الأماني والتمنيات الطيبة. فكلا الطرفين له مصلحة حقيقية في إخفاء الحقائق وفي عزل العرب عن مسرح التطورات في العراق. والسؤال الذي لن يحصل العرب على إجابة شافية له هو أين سيحدث التنازل الأمريكي لإيران؟ وما حجم المكافأة التي ستحصل عليها إيران مقابل مساعدتها على حفظ ماء وجه الولايات المتحدة؟ فإيران تسعى لقيام توافق مع الولايات المتحدة يضمن استمرار برنامجها النووي من دون قيود أو معوقات، ويضمن كذلك نفوذها في العراق، ويحفظ دورها الاستراتيجي في منطقة الخليج، ويضمن دورها في لبنان، وربما يضمن أشياء أخرى لا يعلمها إلا المعنيون بالأمر مباشرة.

وفي ضوء ما سبق، فإن جل العرب باتوا على قناعة مفادها أن فشل المغامرة الأمريكية في العراق سيقود إلى نفس النتيجة التي كانت متوقعة لو نجحت هذه المغامرة، ولكن بصورة معكوسة. فبدلاً من انتفاع الولايات المتحدة من «نجاح» مغامرتها العراقية، والذي كان سيؤدي إن آجلاً أو عاجلاً، إلى وجوب تقديم إيران تنازلات للولايات المتحدة، نجد أن إيران تقف اليوم في انتظار الانتفاع من فشل المغامرة الأمريكية وتطالب الولايات المتحدة بتقديم تنازلات للجانب الإيراني. وأمام الواقع الجديد، فإن الولايات المتحدة تقف عاجزة عن الحد من الطموحات الإيرانية في التوسع والنفوذ والهيمنة، أو إغفال المطالب الإيرانية، وهو ما يجعل مستقبل الأمن في منطقة الخليج محفوفاً بكثير من المخاطر والمحاذير.

وبمناسبة مرور أربعين عاماً على «هزيمة يونيو»، ومرور أربعة أعوام على «كارثة العراق»، نقول إن هزيمة يونيو نتجت من تحالف أمريكي ـ إسرائيلي؛ أما كارثة العراق التي نعيش تبعاتها المأساوية كل يوم فستظهر نتائجها الوخيمة وبعيدة المدى على الأمة العربية حين يتم تتويج التحالف الأمريكي ـ الإيراني الذي تبرز بوادره ودلائله كل يوم، في السر والعلن. فالتطورات المتتابعة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط منذ اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر وحتى اليوم قد وفرت الحاضنة المطلوبة والبيئة المناسبة لإعادة بناء تقارب أو تفاهم أو حتى تحالف بين الولايات المتحدة وإيران، هذا بالرغم من الضجيج الإعلامي والاتهامات المتبادلة بين الطرفين.

وفي جميع الحالات، فإن أهم دروس وعبر هزيمة يونيو 1967 وكارثة الاحتلال الأمريكي للعراق تتمثل بتأكيد أهمية وضرورة إصلاح الأوضاع الداخلية كمقدمة ضرورية لتجنب المغامرات الخارجية أو القرارات غير المدروسة من ناحية، ولمواجهة التحديات الخارجية، الإقليمية والدولية من ناحية أخرى. فهزيمة عام 1967 جاءت نتيجة لأزمة النظم التقدمية في ذلك الوقت، بقياداتها ورموزها وإيديولوجياتها، قبل أن تكون مجرد تفوق عسكري لإسرائيل. كما أن الاحتلال الأمريكي للعراق جاء نتيجة لقيام النظام العراقي السابق باحتلال دولة الكويت في عام 1990، حتى وإن كان لأمريكا مخططات تجاه العراق، فإن النظام العراقي قدم لها الذريعة لتنفيذ مخططاتها.

كما أن هزيمة يونيو وكارثة العراق تؤكدان أنه لا بديل من التضامن العربي الحقيقي والجدي للخروج من المأزق العربي الراهن، والذي باتت في ظله دول عربية مهددة في وجودها. وإذا كانت إسرائيل احتلت أراضي من ثلاث دول عربية في عام 1967، بعضها لا يزال محتلاً حتى الآن، فإن العراق المفكك أو التابع لواشنطن يفسح مجالاً جديداً للتمدد الإسرائيلي في المنطقة العربية، بعد أن راحت تتمدد فيها بأساليب عسكرية وسلمية. وإذا كانت إسرائيل قد فشلت في تحقيق أهدافها من حربها الأخيرة على لبنان، فقد أصبح من المرجح أن تشن حرباً أخرى عليه من باب إعادة الاعتبار للعسكرية الإسرائيلية، ولنظرية الأمن الإسرائيلي. ومن المهم التحسب لهذا السيناريو للحيلولة دون حدوثه.

وخلاصة القول إن التضامن العربي والإرادة العربية هما السبيل لإعادة الاعتبار لدور العرب على الصعيدين الإقليمي والدولي. فهل العرب قادرون على بناء تضامن حقيقي بعيداً عن البيانات والشعارات، وترجمة الإرادة العربية إلى أفعال ملموسة تبدد أسطورة أن العرب ظاهرة صوتية، وتعيد الصدقية والموثوقية للقرار العربي؟ هذا هو التحدي!!

* رئيس مركز الخليج للأبحاث

[email protected]