العلمانيون والإصلاح الضار

TT

دأب كثير من العلمانيين على التأفف من تفاهة القضايا التي يشغل الإسلاميون بها بالهم، بينما ينشغل الغرب بالتقدم العلمي وجولات الفضاء إلى زحل والمريخ والمشتري!

ويتهكم هؤلاء العلمانيون على قضايا الإسلاميين من مثل مسألة تحليل الربا وتحريمه، وزي المرأة.

والرد على هذا التأفف العلماني طويل ومليء بالزوايا لكننا نختصر ونقول ببساطة إنه من غير الصحيح أن كل ما يشغل الغرب هو الفضاء وهموم التقدم العلمي فلحضرته مسائل تافهة مساوية لذلك في الاهتمام وضرب الأمثلة على ذلك لا يعد ولا يحصى، وليس آخرها مسلسل أخبار باريس هيلتون ووالدتها. وكذلك غير صحيح أن ما يعطلنا نحن عن ارتياد الفضاء وتحقيق الإنجازات العلمية الباهرة هو مناقشاتنا في تحليل الربا وتحريمه وزي المرأة المسلمة وما إلى ذلك، بحيث أننا لو كففنا عن هذا الكلام سينطلق بنا الصاروخ فورا إلى عين الشمس.

منذ مطلع القرن العشرين والعلمانيون يدقون رؤوسنا، يهدمون ثقتنا بشخصيتنا الإسلامية السوية لنصبح، بدعاوى التغريب، مسخا مشوها متخلفا فاقدا خط الرجعة إلى الصحة التي تولد الإبداع والنهضة والتقدم والتغلب على الفقر والجهل والمرض. فلم تكن دعوى التغريب هذه تتضمن أبدا برنامجا ينهضنا على شاكلة النهضة العلمية الحقة المفيدة التي حققتها اليابان والصين وحتى كوريا.

ولم يكن هذا الإغفال سهوا بل كان خطة يعرف العلمانيون جيدا أنها كانت مرسومة بدقة. لم يكن مسموحا لمصر ولا لأي بلد عربي وإسلامي أن يرتفع عن مستوى مسح أحذية سيده الغرب. وها هي تركيا التي أكلت الربا وحرمت الحجاب وكتبت الخط اللاتيني وتبرأت سياسة حكامها من الإسلام برمته فهل استطاعت بعد كل هذه التنازلات أن تكون ندا للغرب؟ وهل وصلت إلى قمر أو زحل أو مشتري؟ بالطبع لا. لماذا؟ لأن الغرب لم يسمح لها بسوى أن تكون قردا ممسوخا بعد أن كانت دولة خلافة يرتعبون من مقامها.

وأمامنا هذا الرفض الهستيري لبرنامج إيران النووي وغض البصر في الوقت نفسه عن النشاط النووي السري والعلني للكيان الصهيوني، فهل يتصور العلمانيون حقا أن إباحة الربا وإغماض العيون عن تعرية شعور وأبدان المسلمات سوف يجلي عنا غمة التخلف العلمي، ويكون بإمكاننا الإمساك بالخيط السحري للصعود إلى القمر؟ أم سيواصل الغرب سلسلة اغتيال علمائنا كلما لاحت من بينهم عبقرية يفاجئهم بريقها خارج سيطرتهم؟

وهنا أجد من المناسب التنويه بكراسات المستشار طارق البشري التي نشرها منذ سنوات تحت عنوان موحد «في المسألة الإسلامية المعاصرة»، وهي تجميع لعدد من أبحاثه ومقالاته التي ألقاها في ندوات لجمهور محدود، أو نشرها في مجلات وصحف لا تصل إليها كل يد، فهذا التجميع مع التصنيف يتيح الفرصة لجمهور أوسع التحرك عقليا، والانتعاش ذهنيا مع مناقشته موضوعات مختلفة تصور البعض أن أبواب مناقشتها قد أغلقت بأحكام نهائية، مثل موضوع «الخلافة العثمانية»، وحركات الإصلاح فيها، ثم انهيارها ثم إعدامها ودفنها تاريخيا باعتبارها من أعتى النظم الإجرامية التي حكمت البشر وإلزام كل متكلم عنها بترديد المقولات الجاهزة التي تصب في هذا الاتجاه وإلا كان كذا وكذا وكيت وكيت... إلى آخر التهم المكرورة. ومثل موضوع «المعاصرة» و«الوافد والموروث» و«الإصلاح» و«التحديث» و«التطور» و«الغلو» و«هل غابت الشريعة بعد عهد الراشدين»، إلى آخر كل هذه العقد المربوطة في حناجر العلمانيين بحبال المقولات المستهلكة التي «تزغطوها» بلا نظرة ثانية لمراجعة أو تفكير ويواصلون «تزغيطها» لأجيالهم الشابة، يزمرون بها في كل مجال للنشر أو الكلام أو التعليقات. و«التزغيط» كلمة تعني دفس الطعام بالقوة داخل الجوف.

يقول تنويه الكراسة «ماهية المعاصرة»: «إن أهم ما يواجه العالم العربي الإسلامي يرد من المواجهة بين أصول الحضارة العربية الإسلامية، التي سادت حتى بدايات القرن التاسع عشر دون منازع، والحضارة الغربية التي وفدت مع تغلغل النفوذ الغربي السياسي والاقتصادي والعسكري منذ بداية ذلك القرن. والتاريخ العربي الإسلامي يرتبط، خلال القرنين الأخيرين، بهذه المواجهة في كل جوانبه. وعلى مدى القرن التاسع عشر، فإن المواجهة السياسية والعسكرية قد شحذت همم المفكرين والقادة السياسيين العرب والمسلمين، يفتشون عن مكامن القوة في الغرب ويحاولون نقلها وعن مكامن الضعف في أنفسهم ويعملون على تلافيها. ثم كان للثورة العسكرية والسياسية الغربية المؤيدة بالتفوق العلمي والتنظيمي، ما اختل به ميزان التقدير في أيدي هؤلاء المفكرين والقادة من ناحية مدى الجبر والاختيار في تحديد ما يأخذونه من الغرب وما يدعون من نظمهم وأفكارهم وأصول حضارتهم وعقائدهم. وجاء الاقتحام العسكري والسياسي فاضطربت تماما معايير الانتقاء لما يفيد العرب والمسلمين من منجزات الغرب، وشلت القدرة على التمييز بين النافع وغير النافع، وطمست الفروق بين التجديد والتقليد وبين النهوض والتغيير والإصلاح والاستبدال».

في هذه الكراسة نلحظ غضب طارق البشري شديدا لكنه هادئ يعبر عنه بالفصاحة والحجة والدليل والتدقيق في التصويب، والحرص البالغ في انتقاء الكلمات، التي يضطر أحيانا إلى نحتها، فهو لا يفور طاعنا ضيق الصدر بل يسدد مصطلح الرؤية ليذهب إلى موقعه مرتاحا، يقول: «.. نحن نتساءل الآن عما نستدعي من التراث، بعد أن كان آباؤنا يتساءلون عما يأخذون من الوافد...» ويقول عن «الإسلام» مصححا لمنهج التناول عند اللاإسلاميين: «... فهو الميزان وليس الموزون في ما تأخذ الجماعة وما تدع. وهو ـ أي الإسلام ـ معيار الحكم والاختيار وليس المحكوم ولا المختار...»، ويقول: «... وما يتعين الحذر منه بداءة هو هذا الترادف والتلازم بين الوافد والعصري، وبين الموروث والرجعي...». ثم ينحت هذا التعبير الحاسم والجريء الذي لم أقرأه عند أحد غيره: «الإصلاح الضار» ليعبر به عن فكرة الاندفاع، الذي شهده تاريخنا الحديث نحو كل لافتة براقة تحمل كلمة إصلاح بينما تكون هذه اللافتة في أحوالنا ضلالا بعيدا عن الإصلاح الحق، ليس لأن اللافتة مزيفة فقط ، ولكن لكونها إعلانا عن دواء لا يلائم حالة المريض فيقتله.