كتاب الخبز وقانون الخباز

TT

يخيل إلى الناس ان الاعتزاز الوطني في فرنسا هو الجبنة، انطلاقا من جملة ديغول الساخرة «كيف يمكن ان تحكم بلدا ينتج 350 صنفا من الجبنة» (الآن 600 صنف) ولكن الحقيقة ان فخر فرنسا ليس الجبنة ولا العطور، بل الخبز او رغيف «الباغين» الأشبه بالعصا. طبعا عصا قادة الاوركسترا. ولمن يشكك هناك كتب كثيرة في الموضوع، آخرها «عودة الخبز الطيب» عن جامعة «دوق» الاميركية.

حجم الكتاب 376 صفحة يا مولاي، تؤكد لك ان المسألة ليست في هذه البساطة اطلاقا. فقد كان عمال الافران في فرنسا في القرن الثامن عشر أشبه بالعبيد، يمضون الساعات الطويلة في عجن الطحين، بأيديهم واحيانا بأقدامهم، قبل ان ينتفخ ويدفع به الى الفرن. وكان عامل الفرن يسمى بـ«ذي الانين» من كثرة ما كان يتألم ويتذمر. وقد كتب الصحافي لويس ـ سيباستيان ميرسييه عام 1788 ان شغيلة الافران كانوا حطاما مغطى بالطحين يرتمون على مداخل الافران بعكس شغيلة الجزارات «الذين يمتلئون صحة وعافية».

وقد انتهت «العبودية» للخبز والعجن في فرنسا اواخر ثلاثينات القرن العشرين مع اختراع البرادات. وكان إعلان براد «فريجيدير» يقول: «لن يستعبدكم العجين بعد اليوم». وقد اخترعت ايضا الخلاطات الآلية ولم يعد هناك ضرورة «لذوي الأنين». لكن الرغيف فقد تلك النكهة التي كانت توفرها عبودية العجن. وانخفض معدل استهلاك الفرنسي من 900 غرام خبز في اليوم الى 150 غراما. واصبح في امكان أي محترف الآن ان يكون خبازا، تلك المهنة التي كان ينظر اليها الفرنسيون بتوقير شديد. وكانت للفران خصائص: «ضخم وقوي وغبي». لكن المعاجن الآلية تتولى الآن كل شيء. ويبقى السر في الخميرة كما كتب الساخر «ارت باكوالد» من باريس قبل عقود. وما زلت ترى في شوارع المدينة محلات قليلة كتب على واجهتها «خباز». انه لقب تشريفي لا يعطى لأي كان كما حدده القانون الذي اصدره رئيس الوزراء جان بيار رافاران عام 1998 وعرف بـ «قانون رافاران». اذ ما لم يكن في المحل خباز محترف لا يمكن لأحد ان يرفع على بابه تلك اليافطة المشرفة.

هذا هو البلد الوحيد في العالم، على ما اعرف، الذي يحمل فيه المرء رغيفه ظاهرا وهو عائد الى منزله. وكنت مرة على موعد مع طبيب في مدينة «بيربنسيان» على الحدود الاسبانية. وعندما وصلت اعتذرت موظفة الاستقبال قائلة: «دقائق ويكون الطبيب هنا، فقد ذهب لشراء رغيفه». وعندما عاد، وكان رجلا ناحلا مثل الرغيف، سألته اذا لم يكن في امكان الخباز ان يرسل الرغيف اليه بدل ان يترك عيادته، فقال: «لا يمكن ان اضحي بمتعة الانتقاء. يجب اولا ان اختار الرغيف ثم ان اتفحصه ثم ان أسأل الخباز اذا كان خياري صائبا. وغالبا ما يقول: ضع هذا الرغيف جانبا. انك لن تعرف ابدا كيف تختار. انني اعتقد ان فيك الكثير من الدماء الاسبانية ايها الطبيب».