ما صنع «الحداد»

TT

* كلام شوارع

كان الزعيم الليبي معمر القذافي محقاً بالفعل، في لقاء أجرته معه قناة «الجزيرة» قبل بضعة أيام، عندما وصف أحد أسئلة محاوره بأنه «كلام شوارع». ومن شاهد اللقاء سوف يتفق تماما مع العقيد بأن معظم كلام المحاور كان أقربَ إلى لغة الشوارع والسوقة، أو «تحت الزنار» كما قال المذيع بعظمة لسانه في ختام الحوار. ورغم كل ما يمكن أن يكون لدى الفرد من تحفظات على آراء العقيد وسياساته، يظل في النهاية رأسا لدولة عربية مهمة، وممثلا لشعب عربي مهم. أسئلة وتعليقات مذيع «الجزيرة» للزعيم الليبي كانت مبطنة باستخفاف لا يليق طيلة الحوار، وأورد هنا ثلاثة تعليقات لا يمكن أن تقرأ خارج سياق الاستخفاف.. يقول المذيع للقذافي «قبل أن تسرح بأفكارك الجميلة والمثالية»، وهذا يصب مباشرة في الصورة النمطية للقذافي الحالم.. وقوله «أنت شاب مخضرم» في سياق مقارنة مع من هم مخضرمون وليسوا شباباً، والقذافي ليس شابا بأي معيار فلا يقرأ ذلك إلا بصورة الشيخ المتصابي.. أما تعليقاته عن ملابس القذافي الخضراء فكان فيها استهانة بينة، وكأنما مذيع «الجزيرة» أراد أن يظهر ضيفه كمهرج لا كقائد دولة. مهما اختلف الإعلامي المحاور مع ضيفه، فإنه يظل يحفظ مقام الرئاسة، لكن محاور «الجزيرة» لم يفوت أي فرصة لكي يشعر المشاهد بأنه يسخر من العقيد، سواء بمقاطعة فظة أو بتعليق مبطن أو بابتسامة ساخرة لبسها على وجهه طيلة الحوار. ولعل جميعنا شاهد لقاءات تجريها محطات إعلامية مرموقة مثل «البي بي سي» و«السي إن إن» مع زعماء دول وملوك ورؤساء جمهوريات، فإن الإعلامي يوجه أيَّ سؤال يراه مفيدا لنجاح حواره ورغبة جمهوره في المعرفة مهما كان السؤال محرجا لضيفه. كنت أتوقع من محاور «الجزيرة» بدلا من الاستخفاف بالرجل أن يسأل أسئلة ساخنة حول قضية «حقن الاطفال بالإيدز»، أو هل كانت عند ليبيا أسلحة دمار شامل حقا؟ أو عن الجديد في حادثة لوكربي، أو عن التوريث، أو عن القضايا الليبية الداخلية والخارجية. لكن محاور «الجزيرة» لم يفعل أياً من هذا.

* ما صنع الحداد؟

في محاولة لاستفزاز الزعيم الليبي، قال مذيع «الجزيرة»: «إن بينك وبين النظام السعودي ما صنع الحداد، وليس ما صنع سامي حداد». ولكن الانطباع الذي لا يقبل الشك عند الذي شاهد الحوار، هو أن الحوار برمته كان من صنيعة «الجزيرة»، وأن سامي حداد أراد توريط القذافي في أن يقول ولو كلمة واحدة ضد المملكة العربية السعودية وقيادتها. وكان واضحا أن الحوار وجه لإيقاع القذافي في فخ المشتمة، فعدد الأسئلة عن السعودية كان يشكل أكثر من ثلاثة أرباع الحلقة. ولف سامي حداد ودار أكثر من عشرين مرة حول السعودية، ولكن الرجل بدا أذكى من حداد ولم يرو ظمأ المذيع إلى سماع «وصلة شتيمة» من زعيم عربي ضد إخوانه في بلد عربي آخر. لذا جاءت الشتائم ضد السعودية على لسان مذيع «الجزيرة» نابية وعدوانية كمحاولة يائسة لجر الزعيم الليبي إلى ردح «الجزيرة». ففي إشارة إلى اتفاق تشاد والسودان في الرياض، غمز حداد من الرعاية السعودية للاتفاق قائلا: «السعوديون يلعبون في الحديقة الخلفية لليبيا»، فكان رد القذافي «لماذا أنت قلق من هذا؟».. وفي تعليق حداد على اتفاق مكة ومحاولة استفزاز القذافي حول الدور السعودي في المصالحة بين حركتي «فتح» و«حماس»، قال القذافي إنه يحب أن يتحمل إخوانه العبء معه، وأن هذه المبادرات لا تقلق، «وأتمنى لها النجاح».. وباستماتة سامي حداد لنبش الخلافات الليبية ـ السعودية، جاء رد القذافي مخيبا لآماله: «الملك فهد حبيبي وصاحبي، وحزنت كثيرا على موته.. القصص الأخرى خليها بروحها»، أي اتركها وحالها.

* «لمّوا الدور»

ومع ذلك، كان المذيع يلح ويلهث خلف عبارة واحدة يمكن أن يقال بعدها إن القذافي شتم السعودية، فطرح أسئلة غير متناهية عن الدور السعودي. وحكاية الدور السعودي هذه، أصبحت نغمة مستمرة مملة على قناة «الجزيرة» منذ اتفاق مكة، وكأن الدور القطري لا يمكن أن ينجح إلا إذا فشل الدور السعودي. طرح حداد دور الأمير بندر في موضوع لوكربي، ولم يفته أن يذكر مشاهديه بما سماه «اتهامات الصحف البريطانية للأمير في صفقة اليمامة»، هذا كلام قاله حداد ولم يقله القذافي. ولما لم يشف القذافي غليل صاحبنا بأي شتيمة، تذكر حداد أو همس له المخرج في أذنه بأن القذافي شتم السعوديين في السابق، فألقى حداد بواحدة من الشتائم في وصف حكام المملكة يعف اللسان عن تكرارها، آملا أن يؤمن عليها العقيد، فأجابه القذافي على الفور «هذا كلام غير صحيح»، ولم ينبس المحاور ببنت شفة، كأن يدافع عن معلومته (التي رماها في وجهنا) بأنها منشورة في الجريدة الفلانية أو مذاعة في المحطة العلانية بتاريخ كذا وكذا.. ولإنقاذ ماء الوجه، ولو قليلا، انتقل حداد إلى موضوع «إسراطين»، وقال للقذافي إن «مبادرة دولة (إسراطين) طرحتها في قمة بيروت»، فرد القذافي سريعا بأنها لم تكن مبادرة بل فكرة، ونوقشت في عمان وليس في بيروت.. كيف يمكن لأي مهني أن يتخبط في أخطاء كهذه في حوار على هذا المستوى.

إذا كان منتهى غاية حداد و«الجزيرة» منافسات (الدور)، أي في منافسة حول من تكون له الكلمة المسموعة السعودية أم قطر وفضائيتها، فلن يبقى أمامنا خيار إلا أن نقول لهما وبالعامية المصرية (لمّوا الدور).

*وشهد شاهد من أهلها

لافت للنظر، ما قاله حافظ الميرازي لجريدة «الحياة» بتاريخ 9/6/2007، عن قناة «الجزيرة» التي كان من مقدميها الكبار، ووصفه لها بأنها تحولت إلى تلفزيون «حماس»، وأن التيار الإسلامي المتشدد قد يسيطر على القناة.. كلام الميرازي كواحد من إعلاميي الداخل مهم ولا يمكن تجاهله، كلام يؤكد بأن انقلاب «حماس» قد حدث في الإعلام قبل أن يحدث على الأرض في غزة. ومن تابع تغطية أحداث غزة على هذه الفضائيات العربية، سيتبين أن هذه الفضائيات تعج بخلايا «ليست نائمة» على الإطلاق، تروج لـ«حماس» خاصة والإسلامويين عامة، تروج للقتل والاغتيالات إما خوفا أو قناعة.

فضيحة المذيعة اللبنانية سوسن درويش التي تحدثت ساخرة (وهي تظن أنها ليست على الهواء) حول التأخر في قتل النائب اللبناني وليد عيدو، وعن أن الوزير أحمد فتفت قد حان دور اغتياله، لم تحظ بتغطية ونقاش حولها في فضائيات تنصب نفسها رائدة للشرف الصحافي، رغم أن تلك الفضيحة تناولتها كبريات المؤسسات الإعلامية العالمية كخبر أساسي يهز شرف ومصداقية الإعلام. أم أن التغطية تفهم في الإعلام العربي على أنها تغطية وإخفاء للخبر لا فضحه وكشفه؟!.

* مجرد سؤال

عندما ظهر حديثا كتابي عن الإعلام العربي باللغة الإنجليزية، انزعج بعض الإعلاميين العرب من اتهامهم بعدم المهنية.. إذن، كيف يقرأ هؤلاء حوار سامي حداد مع الزعيم الليبي، وما قالته المذيعة درويش ظانة أنه تحت الهواء، وما صرح به الإعلامي الميرازي لجريدة «الحياة»؟.