هل قضية فلسطين عربية فقط؟

TT

كم هو مثير للاهتمام أن تقرأ الإعلام الأجنبي وتراقب ما يقرّر الإعلام العربي أن يلتقطه منه؟ وكم هذا الأمر أصبح مدعاةً للتأمل والتحليل والتفكير في أسبابه ودوافعه، وتقفي أثر مظاهره في أكثر من صحيفة وفضائية عربية. والاستنتاج الأولي في هذا الصدد بعد متابعة حثيثة لفترة طويلة، هو أن الإعلام العربي في مجمله يلتقط ما ينشر حول العالم العربي. ولكنه غالباً ما يفشل في ترجمة مقالات، ودراسات توضح تآزر القوى الدولية وخططها لتفتيت هذه المنطقة واستهداف عروبتها ومنظومة قيمها.

وعلى سبيل المثال لا الحصر قرأت في الأسبوع الماضي مقالاً يلخص بحثاً في «غلوبل ريسيرتش» بعنوان «الإرهابيون الإسلاميون يدعمهم العم سام» بقلم مايكل تشوزدوفسكي. ويناقش البحث دور المخابرات الأمريكية والإدارة الأمريكية في دعم «فتح الاسلام» في لبنان اليوم، وقارنه بدعم الولايات المتحدة للقاعدة وطالبان لمواجهة الخطر الشيوعي في الثمانينات. ويقول الباحث «في الوقت الذي تتهم فيه إدارة بوش دمشق بدعم «فتح الإسلام» هناك مؤشرات إلى أن القتل الجاري في المخيم الفلسطيني كان نتيجة عملية مخابراتية مدروسة بدقة». ويضيف الباحث: «أن هدف الخريطة العسكرية هو خلق عنف طائفي داخل لبنان يوفر ذريعة «ولأسباب إنسانية» لتدخل عسكري متصاعد من قبل قوات الناتو تحت مظلة الأمم المتحدة.. إذا حدث هذا التدخل العسكري من قبل الناتو بالتنسيق مع إسرائيل فإنه سيقود إلى احتلال أجنبي للبنان وحصار اقتصادي موجّه ضد سوريا. إن الحجة لتصعيد هذا التدخل العسكري تكمن في الادعاء بأن سورية هي التي تدعم «فتح الإسلام» بالإضافة إلى العلاقة المفترضة لها باغتيال رفيق الحريري». ويضيف الباحث في مقاله المذكور: «ولذلك، فإن التحقيق والمحكمة الدولية تمّ استخدامهما لإشعال المشاعر المعادية لسورية في لبنان. من وجهة نظر عسكرية وإستراتيجية، فإن لبنان هو بوابة سورية. ولذلك فإن زعزعة استقرار لبنان تدعم الخطة العسكرية المشتركة الأمريكية ـ الإسرائيلية والناتو والموجهة ضد سورية وإيران. وهكذا تطلق الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية العنان لمنظمات إسلامية، بينما تتهم العدوّ (وهو دمشق في هذه الحال) بتمويل ودعم المجموعات الإرهابية، والتي هي في الحقيقة مدعومة وممولة بشكل سريّ من العمّ سام».

هذه الأبحاث والتحليلات مهمة للبنان ولسورية ولفلسطين وللمنطقة برمتها لأنها تؤكد أن مخططات إدارة بوش والناتو وإسرائيل تستهدف المنطقة برمتها، بينما في الوقت ذاته تستخدم بعضاً من أبناء المنطقة ضد بعضهم بعضا عبر استخدام سياسات تقود إلى فرقة وانقسام وحروب أهلية ونزاع بين الإخوة لتصبح إسرائيل الرابح الوحيد في النتيجة والعرب الخاسرين الوحيدين. مثل هذه الدراسات، على أهميتها وخطورتها، يتجاهلها الإعلام العربي السائد، بينما يسارع، دون تدقيق وتأكد، إلى نشر معلومات تسربها المخابرات الأمريكية لدعم مخططها.

من يجرؤ من العرب أن يقدّم التحليل الذي قدمه الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في دبلن (انظر واشنطن بوست 20 يونيو ـ حزيران الحالي) حين حمّل الولايات المتحدة وإسرائيل والاتحاد الأوروبي مسؤولية الشقاق بين الإخوة في فلسطين، وذلك لأنهم لم يعترفوا بحكومة انتخبت ديمقراطياً بل استمروا بمقاطعتهم لها وحصارهم للفلسطينيين وتغاضوا عن زج أعضاء برلمانيين ووزراء في سجون الاحتلال الإسرائيلي؟ وقال إن رفض إدارة بوش قبول فوز حماس في انتخابات عام 2006 كان «عملاً إجرامياً»، ذلك لأنه فوّت على الفلسطينيين فرصة الاستقرار. ويضيف كارتر: «أن قرار الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وإسرائيل بإسداء العون إلى حكومة عباس الجديدة في الضفة الغربية مع استمرار الحصار ضد حماس في غزة يعتبر جهداً واضحاً لتقسيم الفلسطينيين إلى شعبين». ويصف كارتر عمل الإدارة الأمريكية وإسرائيل والاتحاد الأوروبي لتقويض نتائج الانتخابات الفلسطينية وإبعاد وعزل حماس ومساعدة عباس للاحتفاظ بمقاليد القوة العسكرية والسياسية بأنه جريمة ضد الشعب الفلسطيني. ويضيف «قررت الولايات المتحدة وإسرائيل معاقبة الشعب الفلسطيني، وفعلا كلّ ما بوسعهما لمنع حصول مصالحة بين فتح وحماس». وما ذكرته هنا من مقالات هو غيض من فيض إذا ما عدنا إلى ما يكتبه روني كاسلرز من جنوب إفريقيا، وشاندرا مظفر من ماليزيا، وعشرات الكتاب والناشطين من أجل العدالة والكرامة الإنسانية والذين لا تتسرب كتاباتهم للأسف إلى القارئ العربي لتمدّه ببعض العون في مرحلة يعاني فيها العالم العربي من فرقة وانقسام في الرؤية والتوجه لم تعد سراً على أحد.

بالإضافة لما يكتب، فإن حركاتٍ جادة لمقاطعة إسرائيل بسبب الجرائم التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني بدأت ترى النور. فبعد مقاطعة اتحاد الأكاديميين البريطانيين للمؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية يبدأ أكبر اتحاد عمال بريطانيين (جيروزاليم بوست 20 يونيو) هو اتحاد العمال البريطاني بوضع اقتراح على برنامج عمل المؤتمر السنوي للاتحاد الذي انعقد أخيراً في برايتون لمقاطعة إسرائيل. واتحاد العمال البريطاني هذا هو الأكبر في بريطانيا، فهو يضم عمالاَ من القطاع العام والمتطوعين والقطاع الخاص ويبلغ عدد أعضائه مليونا وثلاثمائة ألف. وتم اقتراح مناقشة مقاطعة إسرائيل في أربع فقرات مختلفة من جدول أعماله. ويبني الاتحاد اقتراحه على فشل اتحاد العمال في إسرائيل (الهستدروت) بإدانة الحرب على لبنان وإدانة الحصار والحرب الإسرائيلية على غزة وفشله أيضاً في إدانة جدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل ضد الفلسطينيين. ولمن يريدون اتهام أحد باللاسامية فقد نشرت «يديعوت احرونوت» تقريراً في 15 يونيو الجاري، يؤكد أن غالبية من طالبوا بمقاطعة الأكاديميين البريطانيين للمؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية هم من اليهود. وهم يؤكدون أن مبادراتهم هي جزء من النضال من أجل حقوق الفلسطينيين ومن أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية. فقد قال البروفسور الإسرائيلي هائيم بريشت، أستاذ الإعلام والثقافة في جامعة شرق لندن، والذي أيّد المقاطعة إن المطالبة بالمقاطعة لم تكن قراراً سهلاً «أنا يهودي وإسرائيلي ولا أريد الأذى لأيّ جانب ولكن كم يمكن لهذا الاحتلال أن يستمرّ، وخاصة أن ما نطالب به ليس العنف و لكنه عملٌ مدني ضدّ احتلال عسكري». أما ستيفن روز وزوجته هيلاري من جامعة برادفورد و الناشطان أيضاً لمقاطعة إسرائيل، فقد قالا: « ليس من الكافي مهاجمة حامل الرسالة بأنه لا سامي أو أنه يهودي يكره ذاته بدلاً من التعامل مع الرسالة الأساسية وهو أن تصرّف إسرائيل غير مقبول».

من هنا يأتي الهجوم على وزير خارجية النرويج على مؤتمره الصحفي في 14 يونيو 2007 الذي قال فيه ما كرّره الرئيس كارتر بأن «إسرائيل هي التي قوضت حكومة الوحدة الوطنية». يأتي الهجوم عليه و اتهامه باللاسامية تخبطاً آخر ممن يخلطون عن عمد بين اليهودية وبين سياسات إسرائيل العنصرية والإجرامية بحق الشعب الفلسطيني واحتلالها البغيض للأراضي العربية في فلسطين والجولان ولبنان. ويلاحظ القارئ لهذا الهجوم الخلط المتعمد بين اليهود وإسرائيل، ففي الوقت الذي كان فيه وزير خارجية النرويج يقول بوضوح ان «اللوم يجب أن يوجه إلى إسرائيل جزئياً على الأقل للاقتتال في غزة»، فإن من يهاجمه يتقصد تحوير الكلام وتفسيره بأنه هجمة على اليهود وأن الوزير لديه مشاعر لا سامية وأن النرويج مذنبة لأنها أنتجت اتفاق أوسلو.

ولكن وبفضل تفتح وعي العالم بأن قضية فلسطين هي قضية عدالة وكرامة إنسانية، فإن حركات مقاطعة إسرائيل ستكبر مثل كرة الثلج ولم تعد قضية العدالة المطلوبة جداً لشعب يعاني من تطهير عرقي وسجن وقتل وتهجير لم تعد ملكاً للفلسطينيين وحدهم أو للعرب وحدهم أو حتى للمسلمين وحدهم، فهي قضية عدالة وكرامة إنسانية يلتف حولها اليوم كل الشرفاء من جميع الاديان و الجنسيات وهذا بحدّ ذاته يؤكد للمرة الألف أن الصراع في هذه المنطقة ليس صراعاً بين الأديان بل هو صراع سياسي على حقوق شعب ُسلب منه حقّه في الحياة والكرامة والحريّة بسبب احتلال عسكري بغيض لأرضه ووطنه ومقدساته.

ولعله من حسن الطالع أنه في هذه المرحلة التي تعاني فيها الأمة العربية من وهن وانقسام تنتقل القضية إلى فضاء دولي لتعيد ثقتنا بالإنسانية، وخير الإنسانية، ولتعيد التلاحم والتآزر بين أتباع الديانات السماوية ضد القهر والظلم والذل والاحتلال والعدوان. ولم يعد اليوم القرار باستقلال القرار الفلسطيني يعني أن الفلسطينيين وحدهم مسؤولون عن حمل قضيتهم إلى العالم، بل أصبح العالم برمته معنياً، تماماً كما كانت قضية جنوب أفريقيا ملكاً للإنسانية إلى أن انتهت بانتصار البشرية على نظام التمييز العنصري البغيض، فإن القضية الفلسطينية اليوم بمعاناة شعبها وقدسها ولاجئيها مطروحة للضمير العالمي ليتخذ الموقف المؤيد للحقوق والكرامة، ويرفع صوته في وجه الظلم والاحتلال والاستيطان والعدوان.