لبنان المستباح والزعامات المحروسة في سجونها

TT

لم يحدث ان تلازم الخوف مع كبار اهل العمل السياسي والحزبي في لبنان، كما هو حاصل منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ثم بعدما بدأ التحقيق الدولي في الاغتيال، صعوداً بعد العدوان الاسرائيلي في يوليو (تموز) قبل احد عشر شهراً على كل جسر في لبنان وعلى مواقع «حزب الله» في العاصمة بيروت وفي بقية المناطق من الحدود مع اسرائيل في الجنوب الى الحدود مع سورية في البقاع والشمال من دون إغفال ضرب محطات توليد الكهرباء وتعطيل مدرجات مطار بيروت المدني الوحيد الذي يربط لبنان جواً بالعالم الخارجي.

وبدواعي الخوف احاط الذين نشير اليهم انفسهم بحرَّاس وسوَّروا مداخل الشوارع التي تقع فيها منازلهم بالحواجز الاسمنتية واستقدموا السيارات التي لا يخترقها الرصاص. ولم يعد بعضهم يسافر إلاَّ عند الضرورة، ولا يستقبل الناس كما من قبل او يتفقد احوالهم كما دَرَج في الماضي على ذلك. وقد وضع البعض منهم حراسة له مستورَدة غير الحراسة المحلية واختصر اللقاءات باستثناء الظهور على الفضائيات التي كانت الدليل على انهم ما زالوا بخير وأنهم شجعان. وكل هذه الاحتياطات هي من اجل تفادي المكاره اغتيالاً عادياً او من خلال التفجيرات المدوية كتلك التي استهدفت كثيرين من هؤلاء آخرهم وليس أخيرهم القاضي وليد عيدو عضو مجلس النواب اللبناني والعضو الاكثر حيوية في «تيار المستقبل» الذي يتزعمه النائب سعد الدين رفيق الحريري.

عملياً تحوَّل اقطاب اهل العمل السياسي والحزبي في لبنان الى سجناء او الى ما يشبه الاقامة الجبرية وكل منهم بداعي الخشية من مكاره تتنوع الجهات المسبِّبة لها. وعندما تصبح حال هؤلاء على هذا النوع فهذا يعني ان واجبهم القيادي منتكس. وكلما انقضى يوم على هذه الحالة كلما بدا الانتكاس اكثر وضوحاً في بلد يعيش رؤساء مؤسساته السيادية، اي رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة، حالة من التنافر فلا يلتقون ولا يتفاهمون ولا يؤدي كل منهم الواجب المناط به تأديته. كما ان كلاً منهم يتصرف على اساس ان المنصب أمر يخصه وان المقر الرئاسي مقره ومن حقه ان يكون حامل مفتاح هذا المقر يقفله ساعة يشاء ويفتحه عندما يريد.. وهي حالة نادرة في عالم الحكم وإدارة شؤون البلاد، كما انها مؤشر إلى فقدان اصحاب هذه المناصب شرعية الإجماع الوطني عليهم. وهذا يؤكد ضرورة ان يكون هؤلاء الرؤساء غير منتمين الى اي حزب او تيار سياسي او موالين لأنظمة خارجية، لأنهم في ذلك يتصرفون ضمن الحياد بالنسبة الى الازمات السياسية فلا يتعطل دور رئيس الجمهورية ولا يرتبك دور رئيس مجلس النواب ولا يتعثر دور رئيس الحكومة.

ولو ان الاحتياطات الامنية كانت لبضعة أيام او نتيجة حدث طارىء يستوجب اليقظة لكان من الطبيعي ان يتنبه هؤلاء وتتولى الجهات الأمنية حمايتهم. اما ان يكون الأمر على نحو ما هو حاصل في لبنان، اي للسنة الثالثة على التوالي، فهذا يعني ان الوضع ميئوس منه وان مسلسل التفجير الى ما لا نهاية وان اي احتياطات امنية لا تُجدي، بدليل ان الرئيس رفيق الحريري رحمة الله عليه اتخذ اكثر الاحتياطات دقة لكن امكن للأشرار الفتك به. وجاءت واقعة تفجير النائب وليد عيدو عصر يوم الاربعاء 13 يونيو (حزيران) 2007 وهو خارج من النادي الرياضي بصحبة نجله البكر واثنين من المرافقين لتترك انطباعاً بأن الاشرار لا يميزون بين مَنْ يحيط تحركه بإجراءات واحتياطات امنية على نحو ما كان عليه موكب رفيق الحريري وبين مَنْ يتحرك في إطار الحد الأدنى من الاحتياطات على نحو ما جرى للآخرين الذين استشهدوا بفعل عمليات تفجير أو اولئك الذين تحولوا الى شهداء أحياء. والمهم في نظر الجهة المحرضة والمخطِّطة ان يكون التفجير مُرعباً بدليل ان كمية الـ«ت.ان.ت» التي استعملت في تفجير النائب وليد عيدو بلغت ثمانين كيلوغراماً مع ان الاغتيال لا يتطلب اكثر من رصاصة مسدس او في الحد الاقصى بضع رصاصات. وبطبيعة الحال فإن مثل هذا الاسلوب في الاغتيالات يجعل كل رموز العمل السياسي والحزبي يسجنون انفسهم بأنفسهم مع ملاحظة ان الاحتباس الذي يشبه في بعض ملامحه الاقامة الجبرية الشائع اعتمادها في اوساط الانظمة الثورية يزداد حدة. ومع ذلك فإن هؤلاء لا يفكون هذا الأسر بمعنى ان يتفقوا على قاعدة الحوار والمنطق وتأكيد الولاء للوطن وليس فقط استعماله.. وبعيداً عن المكابرة والعناد.

وما يبعث على القلق ان الذين يستهدفهم الاغتيال وتحديداً منذ اغتيال رفيق الحريري يوم الاثنين 14 فبراير (شباط) 2005 وحتى اغتيال النائب وليد عيدو انهم من المسيحيين والمسلمين السُنة، وأنهم من الفريق الذي يناصب الحكم السوري الخصام والاستفزاز، وهذا يترك المجال امام استعجال اتهام ذلك الحكم بأنه وراء التفجيرات يساعد على ذلك ان الخطاب السياسي السوري غير متقن بما فيه الكفاية لدحض هذا الاتهام، كما ان عدم سقوط ضحايا من رموز العمل السياسي والحزبي والحركي في لبنان الذين إما يحلقون في المدارين السوري والإيراني وإما على امل ترئيسهم في حال تعثَر الرهان الاميركي ـ الاوروبي على لبنان، يزيد من وتيرة الافتراض بأن كل عملية تفجير تحدث يقف النظامان السوري والايراني وراءها وإن نفى الاثنان ان تكون لهما اي علاقة بذلك. ولكن صدمة الانسحاب السوري من لبنان والخشية المتزايدة لدى اهل الحكم الايراني من خلخلة او ضربة او عقوبات بالغة القساوة تفرضها الادارة الأميركية والمجتمع الدولي على ايران، هما اللذان يجعلان الاتهام السياسي لكليهما يتقدم على الاتهام الجنائي. وإلاَّ فما مَعنى انه اذا حدث تفجير في الساعة الرابعة عصراً يأتي الاتهام في الرابعة وخمس دقائق للحكم السوري، ومن دون انتظار إطفاء الحريق او انتشال الضحايا من بين الركام وكذلك مِنْ قبل وصول المحقق الذي يكشف على الادلة الجنائية الى مكان الحادث. واللافت ان عملية اغتيال النائب عيدو التي وصلت درجة الإجرام فيها الى حد انها حدثت على مقربة من ناد رياضي جاءت في وقت يخوض الجيش اللبناني أُولى مواجهاته مع تنظيم فلسطيني الاسم يصر خصوم الحكم السوري من اللبنانيين على انه تنظيم سوري الإعداد والتكليف، ويعطي اصرارهم بعض القبول ان «لوبي» الحكم السوري في لبنان هادئ الى ابعد الحدود مع هذه المواجهة.

ماذا بعد هذه العملية الإجرامية؟ الجواب هو أن مصير لبنان في علم الغيب اذا كانت العقلية السياسية والحزبية والحركية اللبنانية ستبقى على ما هي عليه.

اما اذا حدث نوع من افساح المجال امام لحظات ضميرية فإن لبنان قد ينجو من الغرق في مستنقع الحاقدين المتلاعبين الذين يستعملون وطنهم ساحة صراع الآخرين مع ان حق المواطنة يفرض عليهم ان يكونوا كلهم للوطن وكلهم للعَلَمْ.. وملء عين الزمن. وهذه هي كلمات عَلَمَهم الوطني الذين استبدلوه بأعلام الآخرين عرباً وعَجماً شرقاً وغرباً. معاذ الله.