مصر بعد غزة الحمساوية.. تهديد داخلي محدود وتحديات إقليمية أكثر جدية

TT

تمثل التطورات الأخيرة في قطاع غزة، تحديا للأمن القومي المصري على أكثر من مستوى. فرغم الخلاف الايديولوجي والسياسي العميق بين مصر وحماس، إلا أن الطرفين نجحا طوال السنوات الماضية في تجنيب العلاقات بينهما الأثر السلبي لهذا الخلاف الايديولوجي والسياسي، وبشكل خاص فقد نحج الطرفان في تجنب التعبير الصريح عن هذه الخلافات الايديولوجية، كما نجحا في تجنب التعبير الصريح عن الشكوك والتوجسات والمخاوف المتبادلة التي يحملها كل منهما تجاه الآخر. وقد انعكس هذا في نجاح الطرفين في إقامة علاقة عمل متوازنة حرص فيها كل طرف على مراعاة اعتبارات الآخر، فأقرت مصر وقبلت بحماس طرفا رئيسيا لا يمكن تجاهله في السياسة الفلسطينية، بينما اعترفت حماس بأهمية الدور المصري في القضية الفلسطينية.

استمرار علاقة العمل والتعاون الحذر هذه كان ممكنا طالما كان نفوذ حماس في فلسطين محدودا بسقف معين، وطالما كانت مكونا، ولو رئيسيا، في الحركة الوطنية الفلسطينية، وطالما اطمأنت القاهرة إلى وجود أدوات ووسائل تتيح لها احتواء حماس في النطاقين الفلسطيني والإقليمي، وكلها أمور لم تعد قائمة منذ اجتاحت حماس قطاع غزة وفرضت سلطانها العسكري المنفرد عليه. الأمر الذي يحتم تغيرا في شكل وآليات العلاقة بين الطرفين.

بالتأكيد فإن قيام ما يمكن اعتباره دولة دينية على حدود مصر الشرقية، يمثل تهديدا جديا للاستقرار السياسي في مصر. ولكن على عكس ما تذهب إليه كثير من التحليلات فإن أثر سيطرة حماس المنفردة في قطاع غزة على الأوضاع الداخلية في مصر، ليس هو مصدر القلق الأهم في أوساط صنع القرار في مصر. فحماس المهيمنة في غزة باتت حبيسة ومحشورة في زاوية أكثر منها قادرة على إلحاق الضرر بالجيران.

صحيح أن مصر تشهد تنافسا، بل صراعا محتدما ضد تيار إسلامي تزداد قوته، وأن انتصار حماس في غزة يمكن أن يوفر قوة دفع لتوسيع نفوذ تيارات الإسلام السياسي في مصر، غير أن قوة الدفع هذه لها حدود موضوعية قاسية، فالموارد المتاحة في قطاع غزة ليست من الوفرة بما يتيح لحماس استخدام الفائض منها لممارسة سياسة خارجية نشطة. بالإضافة إلى ذلك فإن حماس بعد أن فرضت سيطرتها الكاملة على قطاع غزة بات لديها شيء تخشى عليه، وبات لها مصلحة، ولو جزئية، في الحفاظ على الوضع القائم الذي ينطوي على شيء مرغوب ومطلوب بالنسبة لها، أي السيطرة على قطاع غزة، وهي أمور من شأنها أن تحد من ميل حماس للمخاطرة باستنفار جيران لديهم من الموارد ما يزيد بكثير على ما هو متاح لها.

ورغم محدودية الموارد المتاحة لحماس، فإنه يظل لديها القدرة على إثارة الاضطراب والقلاقل من خلال دعم أنشطة وجماعات إرهابية. وقد سبق لجماعات فلسطينية متطرفة، من غير حماس على الأرجح، التورط في دعم وتدريب خلايا إرهابية نشطت في شبه جزيرة سيناء خلال العامين الماضيين، وهي خبرة يمكن لحماس الاقتداء بها. لكن اذا اختارت حماس أساليب الإرهاب للضغط على مصر، فلن يكون ذلك سوى اختيار خاسر، وإن كان له دوي وقتي، فأجهزة الأمن المصرية برهنت على أن أداءها يكون في أعلى مستوياته عندما يتعلق الأمر بمواجهة الإرهاب، وقد سبق لمصر إلحاق الهزيمة بموجة إرهابية عاتية في التسعينيات، وهي الموجة التي كان بعضا منها مدعوما من السودان، الجار الجنوبي لمصر، في مرحلة كان يرى فيها نفسه مركزا لتصدير الدعوة والثورة للجوار.

ما يقلق القاهرة ليس قدرة حماس المسيطرة في غزة على إلحاق الأذى بمصر، ولكن الدلالات الأمنية والسياسية الإقليمية لهذا التحول. فسيطرة حماس على قطاع غزة تمثل مرحلة جديدة من توسيع النفوذ الإيراني في المنطقة، وترسيخ موقع طهران في قلب الشرق الأوسط والعالم العربي بعد أن بقيت لعقود طويلة على أطرافه. تحول إيران إلى دولة جارة لمصر عبر وكالة حماس في غزة هو أكثر ما يقلق مصر. فحماس المحشورة في زاوية غزة، والمعرضة لضغوط وحصار الجيران، قد تجد نفسها مدفوعة لتعزيز تحالفها مع إيران ودمشق. وقد يكون على حماس أن تقبل بتسخين الأوضاع، وإشاعة عدم الاستقرار في الجوار وفاء لثمن الدعم الإيراني. ويمكن لصواريخ القسام والعمليات العسكرية عبر الحدود مع إسرائيل والعمليات الانتحارية في الداخل الإسرائيلي، أن تكون أدوات لحماس/إيران في هذا المجال. ومع كل توتير جديد للأوضاع، سيكون على القاهرة أن تمشي على حد السيف بين ضحايا فلسطينيين تستدعي الحكومة المسؤولة عنهم العدوان، وبين قوة احتلال تمارس الدفاع عن النفس، وهو مأزق لا تتمناه أي دولة عربية لنفسها بسبب المعضلات السياسية والأخلاقية التي يثيرها. وسوف يكون على القاهرة التعامل مع هذه المعضلات نفسها في صياغة سياستها تجاه حماس المسيطرة على غزة. فبينما تملك مصر أداة تأثير مهمة على حماس كونها البوابة الوحيدة لاتصال أهل غزة بالعالم الخارجي، فإن هذه البوابة نفسها، يمكن أن تكون عبئا كلما كان إحكام إغلاقها يمثل مصدرا للحرج السياسي والإنساني. فتوظيف صورة الضحية المحاصرة لاستثارة التعاطف وتعبئة التأييد يظل أهم أدوات حماس في التأثير على الجوار الإقليمي.

ويتجسد التحدي الأكبر الذي تمثله سيطرة حماس على قطاع غزة في التغيير الهيكلي، الذي أدخله على الخريطة السياسية للشرق الأوسط، والذي يفرض على مصر إعادة تكييف استراتيجياتها السياسية وسياساتها الخارجية. فالمنافسات بين الفصائل الفلسطينية، هي أمر قديم قدم حركة التحرر الوطني الفلسطيني نفسها، غير أن هذه هي المرة الأولى التي يأخذ فيها هذا التنافس بعدا إقليميا، يسيطر فيه أحد أجنحة الحركة الوطنية الفلسطينية على جزء من الوطن الفلسطيني، بينما يسيطر الجناح الثاني على جزء آخر. فالصراعات السياسية المصحوبة بانقسامات إقليمية، في كل منها مشروع للدولة، عادة ما يكون من الصعب إلغاؤها أو تجاوزها. الكابوس الأكبر الذي يجب على مصر أن تواجهه الآن، هو أن الانفصال الجغرافي القديم بين غزة والضفة الغربية دخل إلى مرحلة التحول إلى انقسام سياسي بين دولتين أو مشروعي دولتين، كل منهما تزعم شرعية تمثيل الشعب الفلسطيني. وقياسا على خبرة الدول المنقسمة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن مثل هذه الانقسامات تظل قائمة لفترة طويلة لحين حدوث تغيرات سياسية كبرى، وهي التغيرات التي لا تبدو علاماتها في الأفق السياسي للشرق الأوسط، كما أن غياب التجاور الجغرافي بين الضفة وغزة يعمل في غير صالح إعادة توحيد الشطرين الفلسطينيين.

لقد صممت مصر سياستها الإقليمية طوال العقود الماضية على أساس التوصل لتسوية سياسية تقوم على حل الدولتين، وهو حل بات مستعصيا في ظل واقع الانقسام الفلسطيني الراهن. أكثر من هذا فإنه إذا كان مقدرا لواحد من الشطرين الفلسطينيين الناشئين أن يتحول إلى الدولة الفلسطينية، فإن هذا لن يحدث بالتأكيد في قطاع غزة، الذي سيظل وضعه معلقا لفترة طويلة قادمة.

تأجيل التوصل إلى تسوية للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي يفرض على القاهرة إعادة صياغة سياساتها بما ينسجم مع هذه الحقيقة. فمع أن مصر أدركت منذ فترة مبكرة صعوبات التوصل لحل لهذا الصراع، إلا أن عاملين اثنين خففا من وطأة هذه الحقيقة، الأول هو أن بعض عناصر التسوية والرؤى الناظمة لها كانت دائما متوافرة في حدها الأدنى بقدر يسمح بالإبقاء على الأمل بأن تتحالف الظروف الملائمة والإرادات الدولية والإقليمية وحسن الحظ لتحويل حلم التسوية إلى واقع، أما العامل الثاني فيتمثل في أن العملية السياسية، المعروفة بعملية السلام، في حد ذاتها مثلت أحد أدوات وأساليب إدارة الوضع الإقليمي بمعناه الواسع. الأمل بإحياء العملية السياسية بات ضعيفا رغم إعلانات التأييد وفك الحصار التي انهالت على حكومة الطوارئ في رام الله، وعملية السلام لم تعد من ضمن أدوات إدارة واقع إقليمي معقد، وهو ما بات على القاهرة أن تتكيف معه.

احتواء حماس في غزة هو العنوان المرجح للسياسة المصرية تجاه مستجدات القطاع. فبينما لن تعمل القاهرة بنشاط لإسقاط نظام حماس، تاركة ذلك لتفاعلات الداخل الفلسطيني، فإن القاهرة سوف تكون أكثر حرصا على محاصرة ظاهرة حماس ومنع تمددها وانتشار آثارها في الجوار. أما المسار الفعلي للعلاقة بين الطرفين فسيتوقف على الطريقة التي ستستقبل بها حماس السياسة المصرية تجاهها. فقد تعتبرها مقبولة ومناسبة كأساس لعلاقة تعايش حذر بين الطرفين، الأمر الذي قد يحد من احتمالات وفرص التوتر. أما إذا أخفقت حماس في إدراك الفارق بين الاحتواء والعداء الصريح، واندفعت في سياسة التوتير والتسخين، فإن الانتقال من الاحتواء للعمل المباشر، يمكن أن يكون عنوانا لرد الفعل المصري إزاءها.

* خبير في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية