حتى في السياحة فاشلون!

TT

كلما استنشقت هذه الأيام هواء مرتفعات صلالة العمانية العليل، والمعطر برذاذها الندي البارد المنعش، تذكرت ثلة من عرب يتسابقون زرافات ووحدانا كل صيف على العواصم الأوروبية وحتى العربية لاستنشاق دخان عوادم سياراتها ومصانعها. وكلما لمحت غيوما صلالية تعانق جبالها وهضابها كما يعانق عاشق حبيبته بعد فراق، تذكرت سحب التلوث السوداء الداكنة، وهي تكتم أنفاس أبراج العواصم الغربية وبناياتها الشاهقة. السماء في صلالة وبقية العواصم الغربية ملبدة بالضباب. في صلالة الضباب الرباني اللطيف وفي بقية العواصم الغربية الكبرى لندن ونيويورك ولوس انجليس وباريس ضباب التلوث الذي تحول إلى سحب كاتمة داكنة دائمة.

لا يستطيع أحد أن يساومني أو يشكك في إطرائي لهذه المدينة العربية السياحية الجميلة (صلالة)، وأنا الذي قطفت ست عشرة زهرة من ربيع عمري بين أميركا وبريطانيا، ومع أني أعرف أن الريف الأوروبي والأمريكي جميل لكن تظل صلالة بلمستها العربية الخالصة وسكانها المحافظين الكرماء وعذريتها اللافتة سمات يستحيل أن تجدها في بلد غربي آخر، بل إن طبيعتها الخضراء الشديدة الخضرة، وشلالاتها المنهمرة، وعيونها الدفاقة، ومناخها الاستوائي المنعش، وفواكهها المدارية اللذيذة، وأشجار جوز الهند التي تحييك في كل ناحية وناصية تجعلك تشعر بنشوة عروبية غريبة وأنت تسائل نفسك: هل أنا حقا في جزيرة العرب وعلى بعد بضع مئات الكيلومترات عن الربع الخالي؟

كل ظاهرة مناخية وجغرافية في صلالة تذكرك بأجمل المناطق في العالم، فمرتفعاتها التي تكاد تضيق بثوبها الأخضر القشيب تذكرك بمرتفعات اسكوتلندا. وزخات المطر الخريفي الجميل تجعلك تستدعي ذكرى الأمطار الموسمية في البلد الذي استحق عن جدارة لقب (ماليزيا آسيا الحقيقية)، وكنت سأقول وحتى الضباب الصلالي يذكرك بالضباب اللندني، ولكن يا حسرة!! هل رأى أحد منكم ضبابا لندنيا؟ اعتبروني شاهدا على العصر, فقد اقمت فيها اثنتي عشرة سنة لم اشاهد الضباب فيها إلا بضعة ايام وحتى هذا الضباب ربما كان تلوثا فاختلط عليّ الأمر.

أنا أعلم أن للسياح العرب فيما يعشقون مذاهب، ولن أحجر على أحد المكان ولا الزمن الذي يختاره لنفسه ولأسرته لقضاء إجازته فيه، الإشكال هنا أولا أن هناك في الدول العربية مناطق سياحية جميلة وآمنة لم تنل حظها من الدعاية السياحية العربية مثل أبها السعودية وصلالة العمانية، وبالتالي فالإقبال عليها لا يتناسب مطلقا مع مزاياها الطبيعية.

وثانيا أن الثقافة السياحية لدى العرب قاصرة بالنسبة لشعوب الأرض الأخرى، بالعربي الفصيح تستطيع أن تقول ان العرب بالذات ظاهرة سياحية وليس صوتية فقط، وإذا أردت أن تعرف ماذا أقصد ما عليك إلا أن تتجول في أنموذجين من الأماكن التي يرتادهما العرب في الصيف وهما تقريبا من الأماكن السياحية الأكثر شهرة بين بني يعرب: الإيجور رود في قلب العاصمة اللندنية والشانزليزيه في العمق الباريسي، ولك أن تبحث في عينة عشوائية من البرنامج اليومي لعدد من عربنا الذين «يصطافون» هناك، سهر حتى الصبح ونوم حتى العصر، وهذا تصرف شخصي لا يحق لي ان اعترض عليه، لكن الحقيقة المؤلمة تقول ان السياح العرب هم السياح الوحيدون الذين يشاهدون ظاهرتين كونيتين من بين سياح العالم : الليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس.

الغلاء الفاحش.. النصب.. الاحتيال.. الاستغلال.. القذارة في أكثر الشقق والفنادق.. تلوث الشوارع.. ازدحام الطرق.. انتشار عصابات السياح.. والأسوأ من هذا وذاك الدعارة المكشوفة، هي سمة واضحة لبعض العواصم الكبرى التي يقصدها قلة من العرب، لكن ابحث عن العرب في المتاحف المتنوعة والأماكن التاريخية المختلفة والمكتبات الثرية بل الأماكن السياحية الجميلة في الريف الغربي ستجد العربي فيها مثل الشعرة السوداء في الجلد الأبيض.

[email protected]