«توحيد» إملائي و«تخوين» انتقائي ينذران بانفجار نهائي!

TT

وقع ما كان متوقعاً.. وغادرت البعثة العربية لتسوية الأزمة اللبنانية برئاسة السيد عمرو موسى بيروت، خالية الوفاض.

قد يقول قائل كيف يمكن ذلك و«المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين»؟ وقد يتلفت بعضنا يسرة ويمنة للعثور على تبرير لما لا يبرّر. ولكن الحقيقة المرة تبقى أن بعض اللبنانيين غدا أجبن حتى من أن ينقذ نفسه..

أجبن، بل وأذل، من أن يقف ويعتبر، ومن ثم، يصارح من يدفعه دفعاً إلى الهاوية بأنه لا يريد الانتحار ولا يريد لكيانه الهش الاحتراق في لعبة إقليمية ـ دولية مميتة.

في لبنان اليوم طغمة من الطائفيين الحاقدين والمغامرين الموتورين، مستعدة لرهن مصيرها ومصير البلد كله بمؤامرة خطيرة وقبيحة.. أكبر بكثير من هذه الطغمة ومن طموحاتها المريضة.

أعرف أن هذه كلمات قاسية قد تخدش المشاعر وتضعف موضوعية هذا العرض المقصود منه أن يكون رصيناً، لكنها مع الأسف، هي أصدق ما يصف الوضع الراهن.

بالأمس قرأت تحليلاً ممتازاً لكاتب أجنبي مقيم في بيروت بحث فيه الوضع بذهن منفتح ونظرة شاملة، لا تخلو من عمق. وبعدما «شرّح» المعطيات وأجرى مقارنة وافية لما يحدث داخل حدود لبنان، وما يمثّل خارجها من فصول مأساوية، خرج بوصفة تحذيرية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان. وقد ارتأى هذا الكاتب تحركاً من أربع جهات، وبالجدية والحسم الضروريين، لمنع تكرار «غزوة» غزة و«محنة» العراق.

الجهة الأولى هي الجيش اللبناني الذي يتمتع اليوم بعد تضحياته في «نهر البارد» بإجماع وطني غير مسبوق. إذ على قيادته إفهام رئيس الجمهورية وفريقه معارضتها قيام «حكومة ثانية» موازية ورفضها مواصلة تغطية ما يسيران باتجاهه. والجهة الثانية هي البطريرك الماروني نصر الله صفير المطلوب منه اتخاذ موقف أكثر صلابة لجهة منع أي جهة مسيحية مارونية من المشاركة في حكومة من هذا النوع. والجهة الثالثة هي محور الرياض ـ القاهرة المطلوب منه موقف أكثر حزماً وبخاصة بعد إقدام محور طهران ـ دمشق على نسف «اتفاق مكة» الفلسطيني. والجهة الرابعة والأخيرة، هي منظمة الأمم المتحدة التي عليها حماية مقرراتها والتزاماتها، وبخاصة بعد ما وصل الابتزاز السياسي والأمني إلى حد تهديد قوات «اليونيفيل» الدولية في الأراضي اللبنانية.

هذا الكلام لا يدّّعي الحياد، لأنه يتهم علناً محور طهران ـ دمشق بالهيمنة على لبنان بالواسطة عبر حلفائه وأدواته، تماماً، كما هو حاصل في «الساحتين» الإقليميتين الأخريين فلسطين والعراق.

ولكن بعض المواقف المعلنة في كل من طهران ودمشق ومقرات المعارضة في بيروت واضحة وبليغة كل البلاغة. وكلها سبقت إجهاض التسوية التي حاول عمرو موسى وبعثته عقدها. ومن دون إغفال قول بعض قيادات «حزب الله» أن الحزب «لو شاء لكان حسم الوضع الميداني خلال ساعات»، وتلويح قيادات أخرى بـ«الدفاع عن وحدة لبنان بالقوة»، كان لافتاً ما قاله نائب الرئيس السوري السيد فاروق الشرع خلال الأسبوع الماضي.

فبلغة عربية فصيحة لا تشوبها شائبة، قال السيد الشرع: «لا يمكن لأي حفنة من السياسيين (اللبنانيين) أن يقودوا سورية الى إقفال الحدود، أو نشوب نزاع مسلح بين البلدين.. لدينا حلفاء في لبنان هم أكثر قوة من الطرف الآخر، لكننا نشجع على الوفاق اللبناني».

إن الإقرار بوجود «حلفاء» لسورية داخل لبنان «أكثر قوة من الطرف الآخر» ـ مستفيدين طبعاً من ثمار ثلاثين سنة من الوجود والنفوذ الأمنيين السوريين ـ مسألة تحتاج للتمعن والتفكير، وخصوصاً إذا كان مستوى تسليح هؤلاء أعلى من مستوى تسليح الجيش، وإذا كانوا يسعون إلى الهيمنة على القرار السياسي بدعم سوري علني في وسائل الإعلام الحكومية. ثم انه من غير المألوف أن نسمع مسؤولاً في دولة عربية، كالجزائر مثلاً، يقول «لدينا حلفاء» في تونس «أقوى من الطرف الآخر»، أو أن يعتبر الحكومة التونسية مجرد «حفنة من السياسيين»!

هذا أسلوب غريب في نزعته «التوحيدية» الإملائية.. الإجبارية.

ثم ان نسف مساعي «التعريب» مسألة مستغربة أيضاً، إذ ان بديل «التدويل» ـ كما حصل مع موضوع المحكمة الدولية ـ يندرج دائماً تحت خانة «الأمركة»، فيعد من «الكبائر» ويؤدي مباشرة إلى سوق تهم «التخوين» الانتقائي ضد الحكومة اللبنانية ومن يدعمها من اللبنانيين.

بكل أسف، لبنان الآن بلغ أبواب «العرقنة» وسيلجها.. ما لم يدرك المسيحيون اللبنانيون أن مغامريهم المرضى يقودونهم إلى التهلكة، وما لم يتنبه الرأي العام الشيعي، الى أن رفع سقف المجازفة إلى حد «كل شيء أو لا شيء» سيسقط كل المحرّمات، وما لم يدرك العقلاء العرب عبثية السكوت على الابتزاز إلى ما لا نهاية، وما لم يفهم المجتمع الدولي أن مصائر ملايين العرب مسلمين ومسيحيين، أكبر وأثمن من تسابق خبيث على صفقة هنا واختراق سوقي هناك.