الكاريكاتير السياسي: رسم ساخر وخطر للطبقة السياسية

TT

تعودت منذ صغري ان اقرأ اولا الكاريكاتير في الصحيفة التي امسك بها، ثم اعود الى قراءة حروفها واخبارها. وعملت في الصحافة وكبرت وما زلت اقرأ اولا الرسوم الكاريكاتيرية. فقد ارتبط الكاريكاتير عندي بالصحافة في زواج كاثوليكي لا انفصال فيه.

لقد سَخِرَ الانسان من نفسه ومن غيره بالكلمة والصورة. وكانت جدران الكهوف والمعابد والقصور الصفحات الاولى التي سجلت عليها الحضارات رسومها الكاريكاتيرية الساخرة، باستثناء الحضارة العربية الاسلامية التي لم تعترف بالرسم والصورة رسميا، واكتفت بالكلمة كأداة ساخرة. ولعل الشاعر ابن الرومي كان اول كاريكاتيريست عربي.

وساعد اقتران الصحافة بالكاريكاتير في عصر الحداثة والديمقراطية على ازدهار هذا الفن الجديد في اميركا واوروبا. وكانت ولادة الكاريكاتير السياسي مأتما في مؤسسات السلطة، وكانت مناسبة بهيجة وسارة في بلاط صاحبة الجلالة السلطة الرابعة.

والكاريكاتير من حيث التقنية مزج مدهش بين الخيال والواقع في منظور واحد. وهو من حيث الاسلوب يعتمد المبالغة المتهكمة في تضخيم او تصغير القسمات والملامح واللعب العابث بها.

الكاريكاتير السياسي مادة خطرة. فهو عبث هازل وهازئ في موقف جاد. وتطويع الريشة للساسة في مواقف ومشاهد لا تخطر على البال، وتحميلهم اقوالا و تعليقات لا يمكن ان تصدر عنهم وهم في كامل قواهم العقلية.. كل ذلك يجعلهم مادة دسمة للتهكم والسخرية. وقد تصل قوة الكاريكاتير السياسي وتأثيره الى تحطيم شعبية الساسة وهز ثقة الرأي العام بهم.

من هنا، نشأ عداء مستحكم لكن بديهي بين الطبقة السياسية حاكمة او معارضة والكاريكاتير السياسي، عداء ممزوج بالمرارة والحقد والغضب والشكوى وربما الرغبة في الثأر والانتقام. فالسياسي يحب ان يبدو امام الناس جادا ووقورا ومصقولا. وهو في مواجهة «تشويه» الكاريكاتير السياسي له يلجأ الى القانون المنحاز لصالحه غالبا حتى في الدول الديمقراطية، او يلوذ بسلطته في الانظمة المطلقة لكسر ريشة الرسام او لتطويعها في خدمته.

ولا تخلو كل قاعدة او عادة من استثناء. وقد عرفت ساسة وزعماء كبارا كانوا يتلقون الكاريكاتير الساخر برحابة صدر. لكن هذه الحمائم والعصافير السياسية باتت نادرة وسط طبقة سياسية تضع نفسها فوق النقد والمساءلة، وتشعر بالحساسية البالغة ازاء الكاريكاتير اكثر من حساسيتها ازاء الكلمة والتعليق السياسي.

وكما دخل العرب عصر الحداثة متخلفين، فقد دخلوا عصر الكاريكاتير السياسي متأخرين. وكان اول ظهور له في مصر، في مجلة «اللطائف المصورة» التي كانت تنقل خلال الحرب العالمية الاولى بعض الرسوم الكاريكاتيرية عن الصحافة الاوروبية.

ولاقى الكاريكاتير المستورد هوى في بلد ضاحك متسامح كمصر. لكن ولادة الكاريكاتير المصري كانت بريشة اجانب متمصرين من ارمن ويونان وايطاليين. وكانت هذه الولادة غير وطنية. فقد استغل الاستعمار والقصر هؤلاء «المتمصرين» في شن هجمة شعواء في العشرينات والثلاثينات على حزب الوفد وزعيميه سعد زغلول ومصطفى النحاس.

واضطرت مجلة «روز اليوسف» في الرد الى استخدام احدهم (سانتيس). ونشأ وضع كاريكاتيري، فكانت رسوم هذا المتكسب تصدر في «روز اليوسف» مدافعا عن الوفد، وتصدر في «الكشكول» هجوما عليه.

وقبيل الحرب العالمية الثانية تم تمصير الكاريكاتير السياسي مع رواد عباقرة من امثال رخّا ورفقي وزهدي. ولا بد من الاعتراف بان ازدهار الكاريكاتير المصري في تلك الحقبة عائد الى مناخ الديمقراطية الليبرالية المحدودة في العصر الملكي. ثم ما لبث ان انضم الى هؤلاء الرواد رسامون يساريون في الاربعينات من امثال طوغان وعبد السميع.

اود ان اتمهل عند محمد عبد منعم رخّا رائد ومؤسس مدرسة الكاريكاتير السياسي في العالم العربي، فدوره في الكاريكاتير السياسي يحاكي دور التابعي ومصطفى امين في الصحافة. وقد جعله فنا مصريا خالصا وراقيا في صفائه وخفة ظله، وقوة المنظور الساخر والمضحك، وبخطوطه الانسيابية الرقيقة، وبالحضور الاجتماعي والسياسي عبر ابتكاره شخصيات كاريكاتيرية كـ«ابن البلد»، «رفيعة هانم» وزوجها «السبع افندي».

رخا في جسده المترهل وملامح وجهه يوحي بالطيبة المصرية الخالصة. وانسجاما مع عفويته فقد كان يحلو له ان يرسم وهو متربع على الارض. وكانت رسومه الاجتماعية الناقدة والساخرة التي ينشرها على الصفحة الاخيرة في «اخبار اليوم» تولد وتتشكل في اجتماع اسبوعي مع مصطفى امين وكبار كتاب الصحيفة ومحرريها.

ولا ادري لماذا شارك رخّا مصطفى امين في شن اقسى حملة كاريكاتيرية وسياسية تعرض لها حزب سياسي في التاريخ المصري والعربي الحديث. فقد قادت هذه الصحيفة الاسبوعية الناجحة حملة هدفها الاغتيال السياسي لشخص زعيم الوفد مصطفى النحاس، وذلك لحساب القصر بعد اقالة الملك فاروق الحكومة الوفدية في عام 1944.

لعل اغراء المال السياسي كان وراء رسوم رخّا التي لم تقل فتكا بالنحاس عن قلم مصطفى امين. لكن موقف رخّا انطوى على تناقض صارخ. فقد كان في الوقت ذاته رئيسا لتحرير مجلة «مسامرات الجيب» المهادنة للوفد والمعادية للانجليز. وقد ساهم اهتراء الوفد وحملة الصحافي والرسام الشهيرين في تهيئة المناخ وجملة الاسباب التي ادت الى قيام الثورة الناصرية في عام 1952 ضد اجواء الفوضى والفساد السياسي والخلل الذي اصاب الديمقراطية الليبرالية.

وعلى الرغم من تألق رخّا ونجاحه في «اخبار اليوم»، فقد ضم مصطفى امين الى تحريرها رساما ارمنيا متمصرا معروفا. لكن خطوط صاروخيان (او صاروخان) المتشابكة و«المعجوقة» شوهت صفاء الصحيفة وبهاء اخراجها الذي كان يتولاه المهندس علي امين خريج جامعة شيفلد البريطانية.

حبي للكاريكاتير ولرخّا دفعني الى الاهتمام باستقصاء ومعرفة المدرسة التي تأثر بها. وواضح من رسومه انه لم يتأثر بالمدرسة الارمنية واليونانية المتمصرة. وعرفت ذلك بعد متابعة وجهد. فقد كان رخا تلميذ المدرسة الكاريكاتيرية في الصحافة البريطانية يوم كانت تهز العالم كما كانت تهزه مدافع الاسطول البريطاني، وبالذات تلميذا نجيبا لديفد لو اكبر رسامي الكاريكاتير في القرن العشرين.

وعندما تمسك برسوم الرجلين تأخذك الحيرة: ايهما يقلد الآخر؟! ولا ينقذك من الحيرة في هذا التشابه سوى ان تعرف ان «لو» كان سابقا في الزمن والوقت لرخا.

الواقع ان رخا تأثر بخطوط «لو» وتشكيله الصافي للمنظور المريح للعين، ولبراعته في الايحاء بالسخرية دونما حاجة الى تشويه كبير للوجوه ولحركة الجسم والايدي، لكن رخا إنْ تأثر فلم يقلد، وانما استخلص وابدع مدرسة مصرية خالصة في روحها وادائها وفهمها السياسي.

الحديث المتمهل عن رخا يقود الى حديث سريع عن استاذه «لو». فقد كان هذا النيوزيلندي الاصل نِتاجَ عالم ينهار سلامه القلق بين الحربين العالمتين الاولى والثانية (1919 ـ 39) تحت سنابك الفاشية الاوروبية.

بعد توقف قصير في الصحافة الاسترالية، استقر المقام بديفد لو في صحف لورد بيفر بروك احد اباطرة الصحافة في لندن. وشن «لو» حملة كاريكاتيرية لا هوادة فيها ضد الفاشية المزدهرة، مما جعل المانيا النازية وايطاليا الفاشية واسبانيا الكتائبية تحرم دخول الصحف التي يرسم فيها.

ولم يسلم من ريشة «لو» ساسة بريطانيا الديمقراطيون، وعلى رأسهم تشرشل وتشامبرلن. ووصلت كراهيتهم له وحقدهم عليه الى محاولة اضطهاده وفرض رقابة على رسومه كما فعل هتلر وموسوليني وفرانكو. وعندما ضاق بيفر بروك ذرعا برسامه المشاغب ضيق عليه، فانتقل «لو» الى الـ«غارديان» ليمارس من موقع يسار الوسط حرية اكبر في السنوات القليلة التي سبقت وفاته في عام 1949.

احسب ان القراء، وربما الصحفيين ايضا، لا يضيقون ذرعا بحديث آخر عن الكاريكاتير السياسي في الثلاثاء المقبل. فازدهار السلطة المطلقة في النصف الثاني من القرن العشرين لم يمنع من ازدهار وعذاب الكاريكاتير السياسي العربي معها، ولم يحل دون ظهور رسامين في مصر والعالم العربي لا يقلون براعة وتألقا واهمية عن رخا معلم الجيل الثاني واستاذه.

وكان بهجت عثمان الذي غادر عالمنا منذ ايام قليلة احد هؤلاء العباقرة الذين لا يُنسون في فنهم وعذابهم.